الثورة السورية بين السلمية واللاسلمية
رياض خليل
-1-
في الحديث النبوي الشريف جاء: ” من رأى منكم شرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وهذا أضعف الإيمان ” .
الحديث النبوي قاعدة أو مبدأ سياسي/ أخلاقي/ اجتماعي/ إنساني ، صالح للتطبيق في أي زمان ومكان . وفحواه هو عمل موجب .. لاسالب ، بدلالة الأولوية التي حض وأكد عليها ، وهي التغيير ” باليد” ، واليد لفظة رمزية مجازية ، هي كناية عن الفعل ، وليس الاكتفاء بالقول ، وهو أيضا دلالة واضحة لضرورة استخدام القوة بأنواعها ودرجاتها لدفع الشر بأشكاله ودرجاته . ودفع الشر يعني إزالته أسبابا ونتائج . اليد هنا مصطلح يراد منه القيام بعمل موجب مواجه ومقاوم ورافض للشر ، والشر هنا هو العدوان والأذى والضرر الذي يوقعه شخص أو فئة على شخص أو فئة من الناس . وهذا هو الموقف والعمل الإيجابي الذي شرع لحماية الحقوق والحريات والسلم والسلمية .
وحينما تدعو الضرورة لاستخدام العنف منعا للعنف ومن أجل وقف العنف المعتدي ، يصبح العنف مشروعا وواجبا ، يصب في خدمة وحماية الأمن والسلم والسلمية . العنف يتحدد بمضمونه وغاياته ، التي تحدد بدورها مشروعيته من عدمها .
إن مواجهة الظلم والشر لاتكون إلا بعمل إيجابي ، وهو حق وواجب ديني قانوني أخلاقي ، لأنه ضرورة حيوية ماسة للفرد والمجتمع . واستخدام سلاح السلمية سبيلا للتغيير هو عمل موجب ، ويندرج تحت مصطلح الفعل واستخدام ( اليد) كدلالة على الفعل الموجب . ولكن إن استحال على السلمية تحقيق ذلك .. فلابد من مواجهة الشر بالطرق غير السلمية حتما وكرد فعل مشروع وأخلاقي وقانوني وحيوي .
وإن الموقف السلبي من الظلم والشر لهو ظلم وشر أيضا ، ولو تستر تحت شعارات مخادعة وجذابة وملتبسة ، كالإصرار على التقيد بالسلمية سبيلا للاحتجاج والاعتراض والتغيير ، وهو شعار مقبول في حال وفائه بإزالة الشر وقدرته على ذلك ، وحتى في حال كونه مجرد إمكانية واحتمالية واردة وقابلة للتحقيق ، وأما إن خرجت السلمية عن السياق السابق ، وكانت خيارا مستحيل التحقيق ، فإن الإصرارعلى الالتزام بالسلمية سبيلا للتغيير ،يصبح دعوة عبثية لامعقولة ، وكلمة حق يراد بها باطل . خاصة وأن السلمية تواجه عقوبة الإعدام المستمر .
إن التغيير بالعمل الموجب ( باليد) له الأفضلية ، ويعلو على العمل ( باللسان ) ، وهذا الأخير ماهو سوى خيار اضطراري ، يتم اللجوء إليه في حال العجز عن اللجوء للعمل باليد ، أي بالقيام بعمل ملموس يفضي إلى دفع الظلم والشر الواقع ، وفقا للحديث النبوي . وأما ( بالقلب ) فهو أضعف الإيمان ، وآخر الخيارات ، حين لاطاقة لمواجهة الظلم والشر إلا بما يعتمل في القلب من مشاعر وأحاسيس ونوايا وتمنيات ودعاء . فالتراتبية المنطقية لدفع الشر كما وردت في الحديث النبوي ، هي التراتبية المأخوذ بها عموما في كل الشرائع السماوية والأرضية . وإذا كان الظلم والشر أمرا واقعا مستمرا كأن يكون نظاما حكم مسيطر ، فلابد من العمل على تغييره بكل الوسائل المناسبة التي تؤدي الغرض وتحقق الهدف ، بدءا من الوسائل السلمية والمدنية وانتهاء بالمقاومة ، وكلها تعتبر تطبيقا لمبدأ التغيير باليد ( واليد رمز العمل والفعل والممارسة والتطبيق والتنفيذ ) . كلها تعتبر تطبيقا لأولوية التغيير باليد ، مادامت تفي بالغرض وتحقق الغاية المرجوة ( التغيير ) وإزالة الشر .
والمفارقة هي أن الشعب السوري قد طبق الحديث النبوي الشريف بشكل معكوس ، بتراتبية معكوسة تماما . التراتبية الأصلية هي : اليد ثم اللسان ثم القلب . والتراتبية المعكوسة التي طبقها الشعب السوري في مسعاه لتغيير الاستبداد الجاثم على صدره لأربعة عقود ، هي القلب ثم اللسان وأخيرا اليد . بدأت بالدرجة الأضعف ( أضعف الإيمان ) فلطالما تمنى الناس الخلاص من الديكتاتورية والاستبداد والظلم والفساد ، وبعد تراكمية مديدة ، تحول القهر في لحظة من حالة الكمون والسلبية والكبت والحلم والطموح والتمني إلى حالة موجبة فاعلة ، وهو تغير نوعي حاسم ، مفاده الأنتقال من حالة السكوت والتلميح ، إلى حالة التصريح والتعبير والجهر بالدعوة للتغيير السياسي سلميا ، وكانت الشعارات المطروحة متواضعة جدا ، لاتتعدى المطالبة بالحريات والحقوق الأساسية للإنسان ، وهي شعارات معروفة في حينها : أي في بداية الثورة ضد الديكتاتورية ، وظل سقف المطالبة تحت سقف النظام الديكتاتوري نفسه . وهنا تجسيد للانتقال من درجة أدنى ( التغيير بالقلب ) إلى درجة أعلى ( التغيير باللسان ) وهي درجة موجبة ، لأنها فعل كلامي ، إنها قول يراد منه المطالبة بضرورة التغيير بعيدا عن اللجوء للعنف والقوة .
وأما وقد ووجهت إرادة الناس بالقمع واستعمال القوة المفرط والقتل والتنكيل والملاحقة ، فإن المقاومة تصبح تحصيل حاصل ، وخيار مفروض لامهرب منه ، لأن المعركة تكون قد فرضت عليهم فرضا ، ولأن تلك المعركة هي معركة الوجود من عدمه . ولا يملك المدافع حينئذ مخرجا غير الدفاع عن الذات الحيوية . وأي دعوة للامتناع عن الدفاع تصب في خانة الشراكة بالشر قولا وعملا . ومن يتغاضى عن الشر كمن يسهم به . والساكت عن الحق شيطان أخرس كما يقال . ومادامت وسائل تغيير الشر السلمية قد باءت بالفشل ، ووجهت بشر أكبر وأكثر إصرارا وتصميما وتعمدا ، وأقصد بذلك مواجهة الدعوات السلمية بالقتل والرصاص والملاحقة والتنكيل والتعذيب ، مادامت وسائل التغيير السلمية تواجه باللاسلمية ، فإنه يصبح لامناص من اللجوء إلى العنف وسائر وسائل الدفاع ( وهي رد فعل ) لحماية الذات الفردية والجماعية من الهلاك المحدق والمحقق الصادر عن الخصم المعتدي . وتلك هي الدرجة القصوى من درجات التغيير باليد ، وهي استخدام العنف كخيار وحيد لرد ودفع العنف المعتدي . وهو ماوصلت إليه الأمور في الحالة السورية ، والتي كان للسلطة الدور الرئيس في السير في ذلك الاتجاه حتى الآن . وإلى أن وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة . وهي النقطة التي لارجاء بعدها ولا أمل في أي حل سياسي سلمي ، كما توحي بذلك كل المؤشرات والقرائن في الميدان .
البعض يلتبس عليه مفهوم السلمية ، ويرى في مواجهة الشر باليد ( أي بالقوة ) عملا عنفيا يكافئ الشر القائم . وهذا الالتباس مخالف لمنطق الأشياء والطبيعة . إنه يضع في كفة واحدة .. عنف الشر وضرره ، وعنف الخير المواجه له . وتلك مساواة مستحيلة وغير واقعية . ذلك لأن دفع الضرر هو حق وضرورة فطرية ، تحتمها سنن الكون والخلق والبقاء . ودفع الشر هو دفع لأذاه وضرره . ويتدرج دفع الشر حسب درجة الأذى والضرر الذي يحمله ، فمن الشر مايمكن إزالته بنظرة عتاب ، بلوم ، بتأنيب ، بكلمة حسنة أو ملاحظة أو توجيه أو إنذار أو طرد أو غرامة ، أو اعتقال أو ممارسة العنف إن تطلب الأمر الدفاع الإيجابي العنفي لدفع الضرر الناتج عن الشر المعتدي . إن الأصل في الأشياء هو رد العنف بما يكافئه من عنف . ولايوجد مثال واحد في التاريخ على مواجهة العدوان بالقتل بالسلمية . ولايمكن خلط المفاهيم والتجارب كما يروج على ألسنة البعض من الذين يسوقون تجارب غاندي ولوثر كينغ وبعض بلدان أوروبا الشرقية ، والخ على أنها مواجهة ظافرة بالطرق السلمية . فهذا غير صحيح ، لأنها كانت مواجهة سلمية من الطرفين ، وفي الحاضنة الديمقراطية الواحدة . والعدوان لايواجه إلا بالمقاومة . ولو واجه غاندي وكينغ القتل والرصاص لكفا عن الاحتجاج السلمي وانتقلا إلى المقاومة . ولو كانا في بلد ديكتاتوري كسوريا ، وواجها مايواجهه الشعب السوري ، لكانا اتخذا موقفا مختلفا تماما . موقفا مقاوما ومضادا ومحاربا للجريمة بكل وسائل العنف المتاحة لهما .
ونضع أكثر من خط هنا على حقيقة أن الحراك الشعبي السوري قد بدأ وانطلق بشكل مدني حضاري سلمي تماما ، معترضا على الشر والعدوان رافضا للذل والعبودية والديكتاتورية ، وقد اختار المعترضون أن يغيروا ” بلسانهم ” . أن ينتقلوا من التغيير ب” القلب ” إلى التغيير ” باللسان ” تطبيقا للحديث النبوي ، في شقه السلمي . وعبر الشعب السوري سلميا عن رغبته وإرادته بالتغيير والإصلاح واسترداد الحقوق والحريات وكانت شعاراته راقية جدا ( الشعب السوري مابينذل ، حرية .. حرية ، واحد واحد واحد الشعب السوري واحد ، وسلمية .. سلمية .. الخ ) وقد ووجهت كلها بالرصاص والقتل والاعتقال والتنكيل . ولم يعد التراجع من ” اللسان إلى ” القلب” ممكنا بعد أن حشرالمحتجون المطالبون بالتغيير في الزاوية : زاوية العنف والهلاك والموت . واضطر – بالعكس- للانتقال إلى الأمام : أي من المقاومة والتغيير ( باللسان ) إلى المقاومة ( باليد ) : أي بالدفع بالقوة المقاومة المدافعة عن الذات . وكان مرغما مضطرا لسلوك ذلك الخيار ردا على خيار العنف الرسمي الذي لم ولا يتوقف عند حدود . والبادئ أظلم ، أما الدعوة للتمسك بالسلمية في مواجهة القتل العمد ، فماهي سوى دعوة للانتحار المجاني العبثي واللاواقعي . وهذا غير قابل للتطبيق عمليا ، لأنه يتعارض مع السليقة والفطرة البشرية ، ولايمكننا أن نضع إشارة مساواة بين السلمية والاستسلام ، ولابين السلمية والانتحار ، ولابين السلمية واللاسلمية . وعندما سيواجه السلميون القتل عقابا على سلميتهم ، فإنهم لن يستمروا بسلميتهم ، بل سيتحولون إلى الدفاع بشقيه : الإيجابي والسلبي للحفاظ على أرواحهم وأرواح ذويهم وأرزاقهم من الهلاك المنفلت من أي ضوابط أخلاقية وقانونية وإنسانية . إنهم سيجابهون خطر الموت والهلاك بكل الوسائل المتاحة بين أيديهم وهي وسائل متواضعة وضعيفة ، والسلطة السورية هي التي وضعتهم في هذا الموقف الدفاعي رغما عنهم ، وهي التي جرتهم إلى المواجهة العنفية لمجرد أنها تريد أن تبرر قمعها لهم على طول الخط . ولمجرد أنها لاتؤمن بغير الخيار الأمني ولاتفهم سوى لغته ، ولاتملك خيارا بديلا عنه لصون ذاتها وتأمين بقائها واستمرارها في الحكم والسلطة . ولامخرج لها بسوى ذلك ، وليس بوسعها الهروب لأن كل الطرق مسدودة في وجهها ، ولأنها باتت أمام استحقاق المحاسبة والمساءلة الذي سينتهي بها خارج سدة الحكم والسلطة على أقل تقدير .
إن السلمية لاتعني بحال من الأحوال الاستسلام للقتل المجاني ، وخاصة فيما يخص الثوار الذين لايستطيعون التراجع إلى الوراء ، لأن ذلك يعني موتهم في كل الحالات وملاحقتهم والتنكيل بهم . ولاخيار أمامهم سوى التقدم والتقدم إلى مالانهاية . ومهما كانت النتائج كارثية فلن تكون أقل كارثية من التراجع عن المضي في مواجهة السلطة . إنها معركة حياة أو موت ، ولاحل وسط ، ولاإمكانية لأي حوار ، ولا إمكانية لبناء ذرة من الثقة بين الطرفين . ولذلك فإن المعركة مستمرة ومتصاعدة وكارثية على الصعد كافة . وخاصة بعد أن صارت المعركة السورية معركة دولية شاملة ، متعددة الوسائل والأدوات والأهداف .
-2-
المفهوم الملتبس للقوة المدنية السلمية
ثانيا : حول المفهوم الملتبس لسلاح السلمية والقوة المدنية
مقدمة :
ببساطة يمكننا تطبيق قوانين الفيزياء على الصراع الجاري في سوريا مابين السلطة الحاكمة والمعترضين عليها الرافضين لها . ومن قال : إن الحركة الاجتماعية ليست حركة مادية أصلا ( طبقا للمادية التاريخية ) وهي موضوعية أكثر منها ذاتية : المهم يمكن تلخيص الصراع : بقانون الفعل ورد الفعل ، حيث لايمكن أن يسيرا في نفس الاتجاه ، بل هما متعاكسان في اتجاه حركتهما ومتضادان متناقضان . والمسألة ليست إرادية واعية بقدر ماهي عملية موضوعية وسياق إجباري ، لاتلغيه الإرادات والنوايا الطيبة والأحلام الوردية والتنظيرات اليوتوبية الخيالية المشوشة . وفي ظل هذه الأوضاع المأساوية تصبح الدعوات للسلمية والحوار والاحتكام للعقل والمنطق مجرد نكتة فظة لاتغني ولا تسمن من جوع . وقد تكون نوعا من المناورة والتضليل والغدر والخيانة المقنعة والتواطؤ بأي اتجاه من الاتجاهات . ولو كان الحل السلمي ممكنا ومتاحا وسهلا ، لما وصلنا إلى ماوصلنا إليه ، لأن الحل ليس لغزا معقدا وملتبسا ، بل هو بسيط وواضح تماما ، ويتلخص بالتغيير الكفيل بإزالة الغبن السياسي طوال عقود ، وتصحيح البنية السياسية القائمة لتستوعب الاستحقاقات الديمقراطية التي غيبت لعقود . وهذا ليس بالأمر الغامض . ولكن تطبيقه ونتائجه لن تكون هي نفسها بالنسبة لطرفي الصراع في سوريا ، ومن هنا كان منطلق الأزمة والصراع الدموي المتنامي والدائر حتى اللحظة في سوريا ، والذي قد يستمر ويؤدي إلى المزيد من الخراب والدمار والفوضى القاتلة .
حول ردود الأفعال على الجزء الأول من المقال
من خلال ردود الفعل والتعليقات والملاحظات على المقال السابق ، أود التأكيد على أنني لست داعية للعنف بحال من الأحوال ، بل بالعكس أجد نفسي كليا في الجهة المعاكسة له تماما . وأنا من أشد المتعصبين للسلمية وتغليب لغة العقل والتسامح والحوار سبيلا لحل أي خلاف وصراع مابين الأفراد أو الجماعات وسائر مكونات المجتمع ، أي مجتمع كان . وإن الحضارات بنيت بالعقل والعلم لا بالسلاح والعنف ، ولو أن العقل والعلم اضطرا لاستخدام السلاح دفاعا عن السلم والمنطق والعقلانية في حالات كان يضر فيها إلى ذلك . وما الحضارة الأوروبية المتقدمة سوى انتصار لمنطق العقل والعقلانية والعلم في مجال السياسة والاجتماع . وإن العلم الاجتماعي والسياسي هو الذي وضع خطة الطريق السليمة للأمن الجماعي والتعايش السلمي الاجتماعي والدولي , من خلال وضع مشاريع ومبادئ وما يشبه الدساتير العامة العالمية التي تم التوافق عليها حتى الآن ، ولا يقلل من أهميتها أنها ليست كاملة أو هي ليست بمستوى الطموع الإنساني ، ولكن مايبعث على التفاؤل هو أنها مافتئت تتطور وتتحسن وتكتمل ، ومافتئ دورها يزداد ثقلا في حل النزاعات والمشاكل بين البشر والبلدان والأقاليم . وأعظم إنجازلها هو منظمة الأمم المتحدة التي تشترك في عضويتها الدول لثقتها بجدواها وفاعليتها وتأثيرها الإيجابي في حفظ النوع البشري ، وتجنيب العالم حربا عالمية مدمرة طوال مايقرب من سبعة عقود خلت .
وكم هو جميل لو أننا في سوريا نعيش في ظل نظام حضاري يفهم معنى الديمقراطية ويحترم القوة المدنية ، ويفعل الحياة السياسية العقلانية العادلة ، ويتعامل مع حركات الاحتجاج السلمية بنفس الطريقة التي تعامل بها البريطانيون مع حركة ” غاندي ” الذي كما تعرفون جميعا قد درس الحقوق في بريطانيا نفسها ، وجابه الاستعمار البريطاني بمنطقه نفسه وبأدواته نفسها ، ولم يواجه البريطانيون حركته بالقتل والتنكيل ، كما يحصل عندنا في سوريا . والأمر نفسه ينطبق على حركة ” لوثر كينغ ” في الولايات المتحدة الأمريكية .
لايوجد عاقل وحكيم لايحبذ الحلول السلمية الحوارية التفاوضية المتوازنة والمتكافئة والعادلة والنزيهة ، التي يتم فيها تغليب المصالح الوطنية العامة ، على المصالح الشخصية والفئوية والحزبية الضيقة والأنانية . ولايوجد عاقل لاينحاز للخير ، ولايجنح للسلم سبيلا لمعالجة الخلافات والتناقضات والاختلافات السياسية الاجتماعية . ولكن الأمور لاتسير دائما في هذا المنحى ، وكثيرا مايضطر العقلاء إلى اللجوء للعنف لإزالة عدوان ما لايمكن إزالته بغير العنف والقوة ، ويرفض أي عقلانية ومنطق وتحكيم ، ولايرى الأمور إلا من زاوية مصلحته غير الشرعية في فرض نفسه وحكمه ورؤيته وقانونه الخاص . وهنا يغدو اللجوء للدفاع حاجة ماسة وأخلاقية ، أخلاقية بقدر ماهي دفاع عن الحق لاعدوان عليه ، أخلاقية بقدر ماهي دفاع عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ، في الحياة والتعبير والاجتماع الخ . وبعد هذه المقدمة أنتقل لإكمال المقال في جزئه الثاني :
سياق الجزء الثاني من المقال
سلاح السلمية والقوة المدنية
. ليست الحركات المقاومة السلمية التي عرفها التاريخ الاجتماعي السياسي سوى استثناء للقاعدة العامة . وهي استثناء مرتبط بشروط تاريخية محددة ، وببيئة سياسية تملك حدا معينا من الأخلاق والخلفية والأرضية والسلوك الديمقراطي ، وحركة ” غاندي ” في الهند ضد الاستعمار البريطاني مثال ساطع على هذا السياق ، حيث أن البريطانيين كان لديهم إرث ديمقراطي فلسفي وسياسي على الصعيدين النظري والعملي . وكذلك حركة مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأعرق في مجال تأسيس وازدهار الديمقراطية وحقوق الإنسان فكرا وتطبيقا . وهنالك حالات أخرى حدثت في بعض بلدان أوروبا الشرقية ، وليس كلها ، تم فيها التغيير سلميا ، ولايمكن تعميم تلك الحالة في كل البلدان ، كما لايمكن اعتبادرها قاعدة مقدسة وجامدة ومفروضة في كل الظروف . حيث لاتصلح للتطبيق . ولايمكن مقارنتها بحالات مناقضة لها . ففي الحرب الأهلية اللبنانية لم يكن من الممكن تطبيق مثل تلك التجارب السلمية في التغيير والتفاهم ، حتى هذه اللحظة التي تحولت فيها الحرب الأهلية اللبنانية من حرب مشتعلة ساخنة إلى حرب سياسية باردة ومتأزمة في أغلب الحالات ، ومازال لبنان تحت وطأة الصراع المعقد الذي يتقاطع فيه الداخل بالخارج ، وهو مرشح في أي لحظة للاشتعال والتحول من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة . ذلك لأن ماحصل في لبنان هو مجرد تسكين وتجميد للصراع بفعل ميزان القوى المتحول لصالح فئة على حساب باقي الفئات نسبيا . مايعني أن الوضع في لبنان مرشح للانفجار مرة ثانية ، لاسيما وأن ميزان القوى اللبناني الداخلي مرتبط عضويا بميزان القوى الإقليمي والعربي والدولي ، فأي تغير باتجاه أو جهة سيخلق انعكاسه في اتجاه وجهة أخرى في المعادلة الكلية .
أعود وأؤكد على أن مارتن لوثر كينغ وغاندي واجها العدوان السياسي والمدني بالاعتراض والاجتجاج السياسي والمدني ، وكان الطرفان ينطلقان في مواجهاتهما من ذات المنطلقات القانونية والسياسية والفلسفية والديمقراطية ، التي ينطلق منها النظام والسلطة المجسدة له سياسيا ، أي أن الاعتراض والمواجهة كانت تستخدم نفس الأدوات التي تستخدمها السلطة في إدارة المجتمع : الأدوات المدنية الحضارية . ولم تلجأ الحكومتان البريطانية والأمريكية إلى استخدام السلاح والقتل لمجرد الاعتراض السلمي . لم يواجهوا الاعتراض السلمي بالقتل ، لأن ذلك كان تقليدا ديمقراطيا للطرفين . ولقد كان الطرفان المتنازعان في الجهة أو الخندق الديمقراطي ذاته ، أي أن المناخ الديمقراطي هو الذي مكن من الاعتراض السلمي وسمح به نظام يؤمن به ويتبناه عقيدة وفلسفة وسياسة ، ومن هنا لايمكن للاعتراض السلمي على الطريقة الديمقراطية أن ينجح في بلد ديكتاتوري فاشي متوحش ودموي لدرجة أنه يقتل الناس لمجرد أنهم يودون التعبير والاحتجاج والتظاهر ، ولايمكن للمحتجين والمتظاهرين أن يواجهوا القتل إلى مالانهاية ، وبردود فعل سلبية هي أشبه بالانتحار المجاني العبثي ، خاصة بعد أن يصبحوا مجرمين بنظر الحكومة ،وملاحقين ومهددين بالتصفية والقتل هم وأسرهم وكل من حولهم عقابا على ممارستهم حق التعبير بالتظاهر ، وفي ظل غياب كامل لتفعيل القوانين التي سنت لحمايتهم من بطش وطغيان السلطة المنفلتة من أي ضوابط ومساءلة وقواعد قانونية . وفي مثل تلك الحالة تصبح الدعوة لمواجهة العنف الحكومي بالمزيد من الاحتجاج المدني دعوة لامعقولة وعبثية ، ويمكن أن توصف إما بالغباء والجمود الفكري ، أو بالخيانة والتآمر ، أو بالانحياز للطرف المعتدي الرسمي . وبالتالي لن تلقى آذانا صاغية لدى الناس الذين يتعرضون للاضطهاد والتنكيل والقتل ، والذين لامخرج لهم من الأزمة سوى بالدفاع المستميت عن وجودهم الحيوي بكل مايملكون من قوة وإمكانية ، وسيلجأون إلى المقاومة بلا تردد ، وسيواجهون كل دعوات السلمية بالسخرية والاستهزاء وسيعتبرونها نوعا من التواطؤ السافر أو الحماقة والجنون والعبثية . ولايحق لأحد أن يطلب من المدافع مالايطلبه من المهاجم . والحق أن يطلب من المهاجم قبل أن يطلب من المدافع ، تطبيقا للقاعدة الفيزيائية الشهيرة : ” الفعل يستدعي رد الفعل المكافي له بالقوة والمعاكس له بالاتجاه ” . والفعل هنا هو السبب ورد الفعل هو النتيجة . ومعالجة الصراع يبدأ بالأسباب لابالنتائج . وأما وقد حصل الصراع ، فلابد من معالجة الأسباب والنتائج معا ، بمعنى ضرورة وقف الصراع من جهتي الصراع : الموجب المتسبب من جهة ، والسالب الناتح والمرتد من جهة ثانية ، وبغير هذا لايمكن لأي حل أن ينجح . لابد من وقف العنف من الطرفين ، ولابد من تشارك الأطراف في الحل ، وأما إن رفضت السلطة أو ناورت لطرح حل يكرس عدوانها فإن الحديث عن أي حل سياسي هو نوع من المستحيل والعبث . وبالتالي يتقدم الحل العنفي ويسيطر على الميدان إلى أن يفضي إلى هزيمة أحد الطريفين كليا أو جزئيا .
المعركة الدائرة لايمكن علاجها حسب تصوري حتى الآن سلميا وبالمفاوضات . ولاتنفع التمنيات والطوباويات والدعوات للحل السلمي في ظل غياب شروط ذلك الحل السلمي المأمول . لأن للحل السلمي شروطة وبيئته وعناصره الضرورية لإنجاحه . وهذا غير متوفر في الحالة السورية حتى الآن ، ولايبدو أنه سيتوفر في المستقبل المنظور ، في ظل تنافر المواقف المحلية والدولية والإقليمية حول الأزمة السورية المستعصية .
إن مطالبة الضحية بالسلمية لهو مطلب جنوني ومدعاة للسخرية والشك . لأنه من باب أولى أن يطالب المعتدي بالسلمية أولا . وإن مفهوم السلمية ليس مفهوما مجردا ، ولايمكن فهمه بمعزل عن مضمونه وظروفه الاجتماعية السياسية ، ومفهوم السلمية مرتبط بواقع معين . ولاقيمة ولامعنى له بحد ذاته مالم يخدم الناس والقضية المطروحة كحل لها .
مثال عن الحكومات الشرعية :
الحكومات لاتتخلى عن حقها في استخدام القوة والعنف لتطبيق القانون ضد منتهكيه ، وضد المعتدين عليه من الأفراد والجماعات ، حفاظا على الأمن والسلم الأهلي واستقرار الحياة الاجتماعية ، وهذا هو العنف القانوني الشرعي الذي يحفظ الذات الاجتماعية من الهلاك والموت وسائر أشكال العدوان . وهو بمثابة العلاج الطبي الذي يتنوع حتى يصل إلى درجة ضرورة استئصال ورم ما خبيثا كان أم حميدا من أجل الحفاظ على كامل الجسم سليما معافى ، وهو إنقاذ للحياة والروح من تهديد الورم له بالهلاك والموت المحدق به جراء وجوده . ولايستطيع أحد أن يحكم على الموقف الحكومي بأنه موقف عنفي مدان ومجرم ، ولا أن يطالبها باللجوء للسلمية والاحتجاج السلمي على المعتدين على النظام العام والمجتمع . سواء كان الاعتداء من الداخل أو من الخارج . ومثل تلك الدعوة تبدو نوعا من الكوميديا والكاريكاتور .
مثال عن الحكومة اللاشرعية
في البلدان والدول المحكومة ديكتاتوريا ، يصبح المثال السابق مقلوبا تماما ، حيث المجتمع هو الضحية ، والحكومة هي المعتدية أصلا وبداية ، لمجرد أنها موجودة وقائمة فهي عدوان موجود وقائم ودائم ومستمر مادام غير شرعي بالمعايير الديمقراطية وبمعايير حقوق الإنسان الأساسية المدنية والسياسية ، حيث النظام الاستبدادي يفتقد كل مقومات الشرعية التاريخية والشعبية والقانونية والأخلاقية والسياسية . إنه نظام مفروض بالقوة الغاشمة ، وغير مفوض سوى من قبل ذاته لا من الشعب . وفي مثل تلك الحالة تعتبر الحكومة عدوانا وعنفا قائما بقوة قانونها الخاص وبقوة السلاح الذي تملكه وتستخدمه ضد كل المعترضين الرافضين للنظام الاستبدادي . وتعتبر الحكومة في مثل هذه الحالة شارعة وماضية في العدوان والعنف ضد المجتمع ، وأغلبية المجتمع . وفي مثل تلك الحالة نجد من الأخلاقية والشرعية بمكان أن يعمل المجتمع والمتضررون منه على الاعتراض بالطرق السلمية المتاحة والممكنة ، ومن حقهم المطالبة بالتغيير بعيدا عن العنف ، بل بالحوار ماأمكن إلى ذلك سبيلا . أما إذا امتنعت الحكومة اللاشرعية عن تلبية المطالب ، وواجهت المطالبات الحديد والنار والرصاص والاعتقال والقتل ، فلن يكون مناص للمعترضين سوى المواجهة ، ولو كانت غير مضمونة النتائج . وسيطبقون مقولة الشاعر المتنبي الأشهر 🙁 وإذا لم يكن من الموت بد ——– فمن العجز أن تموت جبان) وهذا مايحصل الآن .
ولقد دخل المجتمع السوري نفق العنف المسدود والأعمى ، ولايمكن لأحد أن يبرئ ساحة القيادة السورية كمتسبب أول ورئيس وأساسي في النتائج التي وصلت إليها القضية السورية ، ولايقلل من مسؤولية الحكومة السورية إلقاء اللوم على الأطراف الأخرى التي تحمل السلاح ، والتي ساهمت السلطة في صنعها وخلقها من خلال سياسياتها الفعلية بالأقوال والأفعال ،
هكذا هو الأمر على الصعيد الاجتماعي ، حيث قد .. بل وكثيرا مايتعرض الكيان الاجتماعي جسدا وروحا لمرض عضال حال ومهدد لحياته ولكينونته وأمنه وسلمه واستقراره ، ولايوجد حل آخر حينئد .. ولابد حينئذ من اللجوء لكل الوسائل التي تؤدي إلى إنقاذه مما ألم به ، ومن ضمنها خيار استخدام القوة والعنف . ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ، تعرض المجتمع لأنواع وأشكال من الجريمة المنظمة التي تفتك به وبالناس الآمنين . ما يوجب أخلاقيا وقانونيا على المجتمع ممثلا بقواه المنظمة المختلفة التصدي لتلك الجريمة بالقوة والعنف المضاد ، والهادف إلى إنقاذ عموم المجتمع من مخاطره وآثاره وتبعاته . وهنا يصبح العنف حاجة ماسة لعموم المجتمع ، إي للشخصية الاجتماعية العامة المتكونة من مجموع أفراده وفئاته . وهنا أيضا تصبح السلمية كدعوة للحل موقفا عبثيا لاعقلانيا ومنافيا للطبيعة والفطرة والناموس الاجتماعي والفردي الذي خلقنا عليه . وأيضا يمكن أن تكون مثل تلك الدعوة نوعا من التواطؤ والغبن المرفوض من قبل أي شخصية سوية . والمسألة هنا ليست ثقافية ، ولاتتعلق بسوية ثقافية ، بل بسوية نفسية وعصبية وسلوكية , وهذه ليست مرتبطة كليا بالمستوى التعليمي والثقافي كما تؤكد الوقائع . وهنا نجد دعاة السلمية التي في غير محلها والتي تطلب السلمية من المجني عليه وتنسى الجاني ، نجد هؤلاء المدعين للسلمية أقلية مستهجنة ومنبوذة ومشكوك في مواقفها تجاه الصراع . وهم يصرون على مالايمكن الإصرار عليه ، وهو إمكانية الجنوح إلى السلمية من قبل الطرف المعتدي ، وإمكانية الاحتكام للحوار المتكافئ العقلاني والمنطقي . هؤلاء يمارسون نوعا من الترف الفكري المبتذل ، وفي حالات أخرى يمارسون نوعا من قلب الصورة وتشويشها والالتفاف عليها وتدوير القضايا والزوايا لشل قدرة أكبر عدد ممكن من الناس على الرؤية السليمة والتقييم السليم وبالتالي الخيار الصحيح لمواقعهم واصطفافاتهم في الصراع المحتدم . وفي الحالة السورية نجد العكس تماما ، حيث السلطة والقيادة السياسية هي التي تهدد الأمن والسلم الأهلي والكيان السوري بتعنتها وإصرارها وتطرفها في المضي قدما في الخيار العسكري/ الأمني/ الدموي ، ماخلق حالة من المقاومة المتنامية ضده في كل مكان . وهي مرشحة للنمو والتعاظم ، مترافقة بتفكك النظام والسلطة ومؤسساتها المدنية والحزبية والسياسية قبل العسكرية والأمنية ، وذلك بسبب الطبيعة الديمغرافية والإثنية والطائفية المعقدة للمجتمع السوري ، حيث بدا الصراع ظاهريا وشكليا نوعا من الحرب على فئة أو طائفة بعينها ، وهي الأغلبية السكانية السنية المعروفة ، ولكن الحقيقة هي خلاف ذلك بالتأكيد ، الحقيقة هي أنه في واقع الأمر صراع بين الديكتاتورية ، وسائر القوى الاجتماعية الرافضة والمقاومة له إيجابيا وسلبيا .. مدنيا وعسكريا . إنها أزمة مجتمعية عمودية وأفقية تمس جوهر الوجود الكلي للدولة والنظام والسلطة والوطن . وبات حلها بعد سنة من اندلاعها في مهب الريح والمجهول ، حسب تصوراتي المتواضعة .
السلمية سلاح ذو حدين : إن استخدم في سياقه الحضاري الصحيح كان فعلا حضاريا راقيا ومثمرا ونافعا ومطورا ومحققا لمعايير العدالة والانصاف . أما إذا حدث العكس واستخدم في غير سياقه المناسب .. كان ظلما وعدوانا وخداعا والتباسا مقصودا يهدف إلى تمكين ونصرة العدوان والمعتدي على الضحية . وبالتالي تكريسا للظلم وخرقا للعدالة وإمعانا بخراب المجتمع وهلاكه ودماره الملموس . وتكون السلمية في هذه الحالة دعما ومساندة للجرائم المرتكبة بشكل منظم على المجتمع ، ولا يمكن لذي عقل أن يدعو إلى السلمية مع قاتل يستمر في القتل ولايصغي إلى أية دعوات للتوقف عن القتل ، والحالة هذه لاسبيل إلى إيقافه بالدعوات السلمية ، بل بمقاومته بكل أشكال المقاومة المتاحة والكفيلة برده عن عدوانه وانتهاكه للقوانين والحقوق المتعارف عليها في التاريخ البشري . الحد الأدنى من المنطق يقول بضرورة الرد وحماية الناس وإزالة الخطر والضرر الواقع ، لابالنصائح التي فشلت ، ولا بالتمنيات والرومانسيات التي لاتنفع في مثل حالة من يواجه الموت والقتل والعدوان . بل بالمقاومة والضرب على يد المجرمين وأفعالهم الإجرامية المستمرة . والهدف الملح والأخلاقي والقانوني الوحيد هو : أوقفوا القتل والعدوان بأية وسيلة : ولتكن بالكلام والنصح والحوار إن أمكن إلى ذلك سبيلا . وأما إن كان ذلك مستحيلا كما أثبتت التجربة والتجارب والمحاولات كلها ، فلا يبقى سوى حل وحيد هو المواجهة والدفاع ، وهو القانون الطبيعي للصراع وسياقاته عموما ، وهو ماتأخذ به سائر الأمم والتاريخ قديمه قبل حديثه . وهو أيضا ما تأخذ به البلدان كافة في بناء قوتها العسكرة لتكون قوة كامنة جاهزة للتفعيل حين يحتاج الأمر لذلك التفعيل. ومايزال العالم بعيدا عن الأمن والأمان مادام هنالك استبداد وعدوان ونظم تحمي وتروج لثقافة الكراهية والعنصرية بأشكالها كافة . وبالتالي لاتزال الحاجة ماسة إلى امتلاك القوة الكفيلة بالردع السلبي في حالة السلم ، والإيجابي في حالة الحرب الحالة . والأمر كذلك بالنسبة للشأن الاجتماعي الوطني .
ومن ينكر الحق في استخدام العنف على الإطلاق وبكل الحالات ، فهو منفصل عن الواقع والمنطق . ويعيش يوتوبيا رومانسية معزولة ، وهو بالتأكيد سيتخلى عنها لحظة يحس بالتهديد المباشر لحياته ويجد نفسه يلجأ إلى العنف دفاعا غريزيا عن نفسه . ويصحو على حقيقة أخرى تختلف عن الحقيقة الموهومة التي تعشعش في دماغه الحالم أحلام اليقظة المريضة .
السلمية مع السلمية . هذا هو المبدأ الصحيح . ولاسلمية مع اللاسلمية ، وهو المبدأ العكس ، والعنف يستجر العنف المضاد عاجلا أم آجلا . وحينئذ يصعب وقف العنف من قبل أحد طرفي المعادلة ، لأن العنف يصير حينئذ ثنائية متداخلة ومعقدة ، ولاينتهي الصراع بين طرفيها غالبا سوى بانتصار وهزيمة .
إن تبريراتنا ودعواتنا السلمية المدنية الحضارية لاقيمة لها من الناحية الفعلية والواقعية والأخلاقية مادامت خارج سياقها الملموس ، ومادامت لاتلقى آذانا صاغية من قبل الأطراف ، ولاسيما من قبل البادئ والبادئ أظلم كما يقال . وأما وأن الصراع تجاوز مرحلة الدعوات للحوار والحل السياسي السلمي ، فلابد والحالة هكذا من التفكير بدعوات من نوع آخر أكثر عملية وقابلية للتطبيق ، لإنقاذ الجميع من الهلاك الذي بدأ يخرب البلد والمجتمع والدولة .