الثورة السورية تحتاج إلى قيادة موحدة
جمال قارصلي
اصبحت الأحداث الجارية الآن في سورية محط أنظار العالم وشغله الشاغل، سواء كان ذلك على مستوى المنظمات الدولية كمجلس الأمن ومجلس حقوق الانسان، أو على مستوى المنظمات الأقليمية كالجامعة العربية، وهي جميعا وضعت الشأن السوري ضمن أولويات جداول أعمالها, ليس ذلك فحسب بل إستقطبت هذه الأحداث القوى العظمى التي باشرت بتحريك قواتها العسكرية المتمثلة بحاملات الطائرات والغواصات التي بدأت بالتواجد قبالة المياه الأقليمية السورية، يضاف إلى ذلك الحرب الإعلامية الشرسة لمختلف الأطراف المتعاملة مع الشأن السوري.
الحراك الشعبي الحاصل في سورية يُنظر إليه من قبل السلطة كعمل تقوم به مجموعات تخريبية أوعصابات مسلحة مدعومة من الخارج وتشبهه بالزوبعة العابرة التي ستخمد قريبا بشكل تلقائي، وهي بدورها تحاول القضاء عليها قبل إستفحالها. هذه المقولة تعودنا على سماعها منذ منتصف شهر آذار الماضي. أما من ينظر إلى ما يحصل في سورية بكل تجرد وحيادية فيرى أن هنالك إنتفاضة شاملة أو بالأحرى ثورة شعبية.
من المعروف بأن أي فعل ثوري له قيادة سياسية بشكل أو بآخر وتكون الرؤى والأهداف بين الجناح الثوري والجناح السياسي موحدة, أما في الحالة السورية فنلاحظ بأن هنالك تباين كبير بين الثورة على أرض الواقع وبين ما تتنازع عليه المعارضة بين أطيافها السياسية وقياداتها المختلفة في الخارج. الثورة السورية كمعظم الثورات في العالم ليس لها إطار فكري يحتويها، وهي لا تخوض نزاعا إيديولوجيا بين أركانها لأنها مؤلفة من مجمل فئات وشرائح المجتمع ومن جميع أطيافه السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولها تنسيقياتها ولها أهداف واضحة وجلية وأولها الوصول إلى الحرية والديمقراطية وإلغاء حالة الذل والإهانة والقهرالتي يعيشها المواطن السوري، وأهم هدف لديها يكمن في إسقاط النظام.
جزء كبير من الناشطين في الثورة السورية لم يكن لديهم أي نشاط سياسي مسبق لأنهم حرموا منه أجيالا طويلة، والجزء الآخر كان ينضوي تحت راية الجبهة الوطنية التقدمية وأحزابها المتعددة ومنهم من كان أو لا يزال يحمل عضوية حزب البعث الحاكم. أغلب هؤلاء كانوا مرغمين بشكل أو بآخر على أن يكونوا أعضاء في حزب البعث، لأنه بدون الحصول على عضوية هذا الحزب تكون فرص عملهم أو ترفيعاتهم في وظائف الدولة قليلة إو شبه معدومة. وهذا ما لاحظته شخصيا عندما رجعت إلى سورية بعد غياب أكثر من خمسة عشر عاما، فوجدت أصدقاء لي ومعارف قد تركوا المعارضة وأصبحوا أعضاء في حزب البعث وقد إستلموا مناصب حكومية، وعندما سألتهم عن هذا الإنقلاب في مواقفهم الشخصية كان جوابهم بأن ظروف الحياة أجبرتهم على ذلك، وطلبوا مني أن لا أفتح معهم الصفحات القديمة ومنهم من أخبرني بأنه ذهب إلى أبعد من ذلك وحاول جادا أن يؤسس حزبا “أسديا” إقتداءا بالأحزاب الناصرية، ولكن هذه الفكرة لم ترى النور لأنها رفضت من الجهات المسؤولة لما تظمنته من تملق وتسلق واضحين. وهذا التحول ينطبق على عدد من رموز النظام الحالي في سورية، لأن قناعاتهم كانت قبل أن يستلموا مناصب حكومية شيء وبعد ذلك اصبحت شيئا آخر.
السلطة في سورية وبقيادة حزب البعث الحاكم كانت تهيء الكوادرالحزبية على طريقة الدول الشرقية سابقا، فهي تضم الأطفال إلى منظمة طلائع البعث من أول يوم يجلس فيه الطلاب على مقعد الدراسة إلى نهاية الصف السادس أي المرحلة الإبتدائة، حيث يتم تسجيل الطالب وبدون الرجوع إلى ولي أمره أو ذويه في هذه الطلائع، وكأن الإنتساب إلى منظمة طلائع البعث جزء أساسي من التعليم الدراسي وواجب وطني. وبعد سن الثالثة عشر يلتحق هذا التلميذ مباشرة بإتحاد شبيبة الثورة التابع ايضا لحزب البعث، وينتهي به المطاف بعضويتة في هذا الحزب، إضافة إلى ذلك كانت للعضوية في حزب البعث إمتيازات وفوائد، منها على سبيل المثال منح الطالب علامات إضافية على معدله النهائي الذي حصل عليه في إمتحانات الثانوية العامة، عندما يريد أن يسجل في إحدى فروع الجامعات الحكومية كما تضاف للطالب علامات أخرى إذا التحق بدورات تدريبية للمظليين أو غيرها. ولهذا أصبحت العضوية في حزب البعث مبنية على الفائدة الشخصية والإمتيازات التي يحصل عليها الطالب لنفسه، وليست نتيجة قناعة أو إيمان بفكر هذا الحزب. هذا الواقع تعرفه قيادة حزب البعث جيدا ولهذا تخاف من الدخول في إنتخابات شفافة ونزيهة، لأنها لا تستطيع أن تعتمد على الملايين من أعضائها في أية إنتخابات قادمة، وما حصل في تونس وكذلك ما يحصل الآن في مصر خير مثال ما يمكن توقعه.
من خلال هذا الشرح المختصر رغبت أن أوضح أن الثورة السورية ليست حكرا على حزب أو فئة أو دين أو طائفة، بل هي ثورة شعبية تشارك فيها كل الأطياف السياسية وفئات وشرائح المجتمع السوري، وهنالك من بين أعضائها أبناء لشخصيات حزبية أوحكومية معروفة. وبالرغم من كل هذا التنوع والتعدد، فإن الثورة السورية في داخل البلاد موحدة ولا يوجد بين كوادرها وتنسيقياتها أية خلافات أو تناحرات، لأن ما يدور على أرض الواقع هو أهم وأكبر بكثير من التنافس على المكتسبات الشخصية والمصالح الفردية.
أما المعارضة السياسية التقليدية – وخاصة الموجودة منها خارج سورية – فهي متناحرة وغير متفقة وتحاول منذ عدة أشهر أن تتوصل إلى إتفاق مشترك بين مجموعاتها المختلفة ولكن بدون جدوى، وما يحصل هو عكس ذلك لأن عدد الإنشقاقات التي تحصل هي أكثر من الإتفاقات الحاصلة، وهذا له علاقة بعوامل كثيرة منها عمليات الشخصنة وتقدمها على الأهداف السامية للثورة اضافة الى وجود عداءات شخصية ـ ليست مبدئية بالضرورة ـ بين قيادات المعارضة، يضاف اليها الأنانية وحب الذات وغياب الثقة المتبادلة بين أفراد هذه المجموعات مما يؤدي الى عدم تفاهمها. وما يزيد الأمر تعقيدا هو الإرتباطات الخارجية وتأثيرها على بعض المجموعات التي تمولها اطراف عدة. كما يسود الإنطباع أن بعض أطراف المعارضة السورية يتم توجيهها من قبل من يمولها ويدعمها من الخارج. هنالك عامل هام آخر وهو أن المعارضة بعيدة عن ما يحصل على أرض الواقع في سورية ولا تعيش معاناة ابناء الثورة في داخل البلاد ومعظم بياناتها وتصريحاتها تخرج ممن يسكنون في فنادق راقية. إضافة إلى ذلك تتنازع المعارضة في الخارج على (فرو) جلد الدب قبل اصطياده , وبعضهم يتصور نفسه قد أصبح رئيس سورية القادم ومنهم من هيأ نفسه بالفعل لذلك اليوم ويتصرف طبقا لذلك وبعضهم مقتنع تماما بمقولة “أنا الرئيس والرئيس أنا”.
الرغبة في تقلد السلطة ظاهرة بشرية مشروعة، ولكنها على ما يبدوعندنا نحن العرب وخاصة السوريين منهم راسخة في أعماق قناعاتهم وعلى رأس سلم أولوياتهم، ويسعون اليها باي ثمن على حساب الآخرين ودون الالتفات الى مسألة الشرعية، سواء كانت ثورية او ناتجة عما تفرزه صناديق الانتخابات.
للأسف امتنا العربية هي أمة الزعامات والقيادات، ولكثرتها لم تستطع الأمة إلى يومنا هذا تحقيق وحدتها المنشودة من المحيط إلى الخليج ولا على اي مستوى، وليس أدل على ذلك من الحديث الذي دار بين الزعمين الراحلين شكري القوتلي وجمال عبد الناصر بعد إنتهاء مراسم تحقيق الوحدة السورية المصرية في عام 1958 والتي تنازل على أثرها الراحل شكري القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر عن منصب الرئاسة (وهذا يذكر بالتضحية التي قدمها الرئيس شكري القوتلي لندرتها في عالمنا العربي)، في تلك الفترة كان عدد سكان سورية خمسة ملايين نسمة فقط. قال القوتلي لناصر: تذكر ايها الرئيس انني سلمتك خمسة ملايين زعيم سوري!! في اشارة الى جموح الجميع للسلطة ورغبتهم فيها في بلده سورية.
الشعب هو الذي يصنع الزعامات وعلى القياديين في المعارضة السورية أن يعملوا كل ما في وسعهم لنيل ثقة المواطن بما يقدمونه له من برامج إصلاحية تعده مستقبلا بتحسين وضعه المعيشي، وأن يبتعدوا عن الأنانية لأن المرحلة القادمة هي مرحلة إنتقالية وفي نهايتها سيقرر الناخب من هو الشخص أو الحزب أو المجموعة التي ستحكم البلاد في المستقبل. أما ما قامت به مجموعة من المعارضة قبل أسابيع قليلة من أعمال بلطجية ضد مجموعة أخرى من المعارضة أمام مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة فهو يدعو المواطن العادي للتفكير والتساؤل حول ما اذا كان هؤلاء هم من سيجلبون له الحرية والعدالة والديمقراطية، وهل هؤلاء من يدّعون بأنهم سيحسنون أوضاعه المعيشية أم انهم فقط يعملون لمصالحهم الشخصية ويتساءل المواطن العادي عن الفرق بينهم وبين السلطة الحالية؟
إن لم تضع قيادات المعارضة مصلحة الوطن والمواطن فوق كل الخلافات الشخصية والنزوات والأنانيات فسيكون نجاحها قصيرالأمد، وإذا كان هنالك من يفكر بأن البلد هي غنيمة لمن يسبق، أو ان السابق هو الظافر, فهو مخطيء لأن المواطن العادي يستطيع بذكائه الفطري أن يميز بين المكر والخداع والصدق والإخلاص في النية والعمل.
وأخيرا أود أن أذكر بالدور الهام الذي يقوم به الجيش في حماية الحدود الخارجية للبلاد وهذه هي مسؤوليته الأساسية كإحدى مؤسسات الوطن الهامة. وإذا كنا نريد أن نبني دولة المؤسسات في المرحلة القادمة فما علينا إلا أن نحدد دور كل مؤسسة في هذه الدولة وأن نمنعها من التدخل بمهام المؤسسات الأخرى، اي الفصل التام بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية. الرجل العسكري تتم تربيته على عقيدة عسكرية معينة وعلينا أن نحترمها ونقدرها ولكن هذه العقيدة لا تلتقي أبدا مع التفكير الديمقراطي وهما مثل الخطان المتوازيان اللذان لا يلتقيان.
الثورة في سورية تنتظر من المعارضة السياسية أن توحد صفوفها لكي تتكلم بصوت واحد وتتجاوز كل خلافاتها وتناحراتها الداخلية وهذا ما تريده كل الجماهير والدول الداعمة للثورة، وما تصرعليه جامعة الدول العربية وحسب تقديري حتى السلطة في سورية قد ترغب – إذا صدقت النية في الإصلاح – في معارضة موحدة، لكي يسهل عليها التفاوض والتحاور وربما التفاهم معها على حلول يمكن أن تنقذ البلد من المنزلق الخطير الذي تقف أمامه. وعلى المعارضة السورية أن لا تخلط بين ما تتمناه و تحلم به و بين ما يجب عليها أن تقوم به، فالسياسة هي فن الممكن وليست لتحقيق الأمنيات والأحلام الشخصية.
نائب ألماني سابق من أصل سوري