صفحات العالم

الثورة السورية تغادر عفويتها .. ولكن

 

د.نقولا زيدان

لا تثير السورية السورية لجهة فرادتها وخصوصيتها وتعقيدات الساحة التي تدور عليها فضول واهتمام المفكرين الثوريين والنظريين العرب فحسب، بل نظراؤهم في الغرب والمجتمع الدولي أيضاً.

وتطرح فرادة الثورة وخصوصيتها إشكالية ترتدي أهمية قصوى ألا وهي السمة العفوية لهذا النهوض الشعبي العارم من جهة وغياب القوى الجاهزة سلفاً لقيادة المعركة من جهة أخرى.

لقد راكم الاحتقان والشعور بالذل والمهانة والمعاناة من التهميش والفقر والتعاسة نتيجة الفساد والعائلية والمذهبية والقمع المتواصل ومصادرة الحريات العامة وإلغاء مؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية والفلاحية والرابطات الثقافية والنوادي الفكرية، حالة عامة هائلة الاتساع من التخمر الثوري الشعبي وذلك على امتداد أربعين سنة من الحكم الفردي الممسك بالبلاد بقبضة حديد، ضمنت استمراره وديمومته آلة عسكرية صماء محاطة بشبكة متشعبة من أجهزة الأمن والمخابرات. وقد لعب حزب البعث الذي راح يتعفن ويتآكل وينهار إلى حد التلاشي دور الصورة الظاهرة المخادعة التي تغطي هذا الواقع المريض.

لقد خرجت الجماهير البسيطة والعفوية تلقائياً إلى الشوارع تطالب بالحرية والإصلاح والعدالة الاجتماعية، أولئك الناس العاديون ممن لا يتقنون عادة استخدام السلاح والذين لم يدرسوا قط فنون القتال والحرب، فلا هم منظمون وليس بينهم إلاّ نادراً من له تجربة حزبية سابقة ذات أهمية، فهم جموع غاضبة خرجت من المدن والبلدات والدساكر والأرياف لتشكل حالة اعتراضية تعبر عن نقمة دفينة حفرت عميقاً في نفوسها عقوداً طويلة متّشحة بالسواد.

لقد نهش النظام الأسدي الدموي نفوسها وزرع فيها الخوف والارتياب وسحق إنسانيتها وقدرتها على الاعتراض. إلاّ أن هذه المراكمة وهذه التعبئة الصامتة وهذا الاختزان المتواصل للكراهية والنقمة والحقد وصل إلى حدوده القصوى ليتعداها إلى ما لا يحتمل ولا يطاق. فالرصاصات الأولى والقذائف وسلاسل الدبابات وعصابات التوقيف والاعتقال هي التي كانت خير معلم لهذه الجموع التي راحت تنخرط رغماً عنها أحياناً في معمعان القتال.

إنها العفوية والتلقائية والسخط العام والغضب المزداد اتساعاً هو الذي ولد هذا المخلوق الرائع الثوري المثير للإعجاب. فقد راح هؤلاء البسطاء من أبناء الأحياء الشعبية في حمص وحماه والرستن وحلب ودمشق، وأولئك الفلاحين والمزارعين في الأرياف والحقول والمزارع، يتحولون إلى محاربين مقاتلين أشداء يقارعون الموت بالموت. فقد انكسر حاجز الخوف وتحطمت أسطورة الرعب المعشش لانهم شربوا طعم الفولاذ. فسوريا من أقصاها إلى أقصاها أصبحت ساحة هائلة للقتال، تذرعها أمواج بشرية لا حد لها ولا حصي من الثوار. لقد أفلت العنف الأسدي البربري الناس من عقالها وأكرهها على حمل السلاح. فقد أدرك هؤلاء الثوار الشعبيون حقيقة ان الجيش المدجج بالسلاح قد جرى إعداده وتنظيمه وتسليحه ليس للقتال على أرض فلسطين ولا لاسترداد الجولان بل لحراسة النظام الفاشي في دمشق وسحق المعارضة والبطش بلا هوادة بكل صوت ممانع. فمن هذا المعين انضم المتطوعون إلى الجيش السوري الحر ليزداد قوة وصلابة وجسارة، فالثورة ماضية غير هيابة إلى خواتيمها الطبيعية والعادلة: اسقاط النظام بأكمله.

إن فرادة وخصوصية الثورة السورية تكمن فعلاً كما هو الواقع الحي المعاش، في غياب القوى المجربة والمسلحة ببرنامج سياسي يخولها الاضطلاع بإدارة الحرب ميدانياً وتعبئة الجماهير المسلحة بالوعي السياسي المطلوب والضروري استعداداً لمرحلة ما بعد سقوط النظام. فإذا كانت العفوية الجماهيرية قد سبقت القوى المجربة في النزول إلى الساحات والميادين، لترفع شعارات ذات طابع ملتبس أحياناً فإن مرد ذلك للغياب التاريخي في ظل المرحلة الأسدية السوداء، للحرية وصراع الأفكار والسياسات. وقد عزز هذا الطابع الملتبس ليس نفوذ الاخوان المسلمين فحسب، بل تفريغ النظام الأسدي للحياة السياسية في سوريا من أي تنظيم أو فصيل سياسي فعّال. كما ان الشعور السائد بالوحدة والعزلة في ظل العجز العربي الفاضح, وتخلي المجتمع الدولي عن الثورة قد ولد مشاعر دينية من هذا القبيل.

فانتقال المجلس الوطني السوري والائتلاف إلى الداخل ليتحولوا إلى قادة سياسيين للثورة ما زال بعيد المنال، ما دامت المناطق المحررة معرضة باستمرار للقصف والدمار. فكيف السبيل والحالة هذه لردم هذه الهوة، خاصة ان المناطق الآمنة أو العازلة التي لطالما جرى الحديث عنها غير قابلة للتحقيق. ولكنه أمر لا بدّ منه رغم التعقيدات من أجل إعادة بناء سوريا، ولكن سوريا الحرية والديموقراطية والتعددية القانونية والاجتماعية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى