الثورة السورية على عتبة عامها الثالث
عمر كوش
عشية إكمال الثورة السورية عامها الثاني وملامستها عتبة العام الثالث، لا يسعنا إلا أن نتوقف عند الاستعداد اللا محدود للتضحيات، وعند معاني ومدلولات الشجاعة والبطولات المنقطعة النظير التي يسطّرها الثوار السوريون، في مواجهة ما تقوم به قوات جيش النظام السوري وأجهزة أمنه ومليشيات شبيحته، من أعمال قتل ومجازر وجرائم، وقصف بالصواريخ والطائرات للمناطق المدنية، على مرأى العالم كله، وفي ظل صمت ما يعرف بـ”المجتمع الدولي”، وتخاذل الديمقراطيات الأوروبية، بل ومخاتلة الساسة الغربيين، الذين أشبعونا كلاماً عن رعاية حقوق الإنسان وحمايتها في العالم.
وهذا الأمر يطرح تساؤلات حول حقيقة المواقف السياسية المعلنة، الداعمة لمطالب الشعب السوري، وافتراقها عن تقديم الدعم اللازم للثوار السوريين، حيث تثار شكوك مراقبين كثر حول أسباب إحجام الدول الغربية عن اتخاذ مواقف حازمة، كتلك التي اتخذتها حيال أزمات دولية أخرى، وحول اختلاف المعيارية في المواقف من الأزمات الدولية، وخصوصاً في جانبها الأخلاقي والإنساني، وعن أسباب التردد في تطبيق مهام الأمم المتحدة وهيآتها -ومنها مجلس الأمن الدولي- في حفظ السلام العالمي والدفاع عن حقوق الإنسان، بل إن هناك دولا وحكومات تبارك هذه المجازر وسائر أعمال القتل، وتقدم أعذاراً وتبريرات مختلفة وواهية.
البطولة المفهومية
وإن كان العديد من المراقبين والمهتمين بالشأن السوري لم يتوقعوا صمود الثوار السوريين وحاضنتهم الاجتماعية أمام كل هذا الإجرام والدمار، وفوجئوا ببطش النظام السوري وقسوته في التعامل مع الثوار وحاضنتهم الاجتماعية، واستعداده الكامل لتدمير أماكن سكناهم، باستخدام الطائرات الحربية والصواريخ ومدفعية الدبابات وراجمات الصواريخ، فإنه يمكن القول بأن السوريين لم يفاجؤوا، بل توقعوا هذا السلوك الوحشي، لأنهم يعرفون جيداً طبيعة نظامهم الاستبدادي، الأمر الذي يفسر تردد عدد كبير منهم في الانضمام إلى صفوف الثورة، إذ لا يزال نموذج مجزرة مدينة حماة فبراير/شباط 1982، ماثلا في أذهان السوريين، ويعرفون أيضاً أن نظامهم لا يسقط ولا يُصلَح بالمظاهرات، ولن يتردد في إطلاق النار عليهم.
وإن كانت ثمة مناسبة للحديث عن تضحيات السوريين في زمن الثورة السورية، فإنه لن يخرج عن تناول الإنسان البسيط، العادي، المقموع لعقود طويلة، والذي خرج متظاهراً سلمياً في الخامس عشر من مارس/آذار 2011، كاسراً حاجز الخوف الذي بناه النظام الأسدي في عهديْ الأب والابن، ومتحدياً بجسده العاري رصاص قوات استخبارات النظام وسكاكين وسيوف الشبيحة وحقدهم. وهو إنسان اكتشف صوته وجسده، وراح يعبر عن ذاته في مظاهرات الساحات والشوارع والأزقة، غير آبه بالثمن الذي يدفعه نتيجة خروجه من القوقعة التي حبسته فيها أجهزة النظام مدة تزيد على أربعة عقود مديدة.
وعلى مدى أشهر عديدة، ارتبطت شخصية المتظاهر السوري ببطولة مفهومية في حدث الثورة، جسدتها مظاهرات درعا وبانياس والبيضاء والميدان والزبداني وحمص وحماة ودير الزور وجامعة حلب وسواها.
وما زالت مشاهد الحراك السلمي ماثلة في الأذهان، حين خرجت مدينة حمص إلى اعتصام ساحة الساعة الذي أنهاه النظام بمجزرة، وحين خرجت مدينة حماة عن بكرة أبيها في مظاهرات سلمية لعدة أسابيع، أنهاها النظام أيضاً بارتكاب مجزرة، ثم عندما خرج معظم أهالي دير الزور في حراك سلمي مشهود، تكرر الأمر ذاته. وبالرغم من كل ما يقال، فإن هذه الأمثلة ستبقى شواهد على نظام مجرم تعامل مع شعبه بقمع لا مثيل له، ومنع المتظاهرين السلميين من الوصول والتجمع في الساحات والأماكن العامة للتعبير بشكل حضاري عن مطالبهم، وواجههم بالقتل والاعتقال والتنكيل.
وسيظل العالم يذكر طويلاً ما فعله شبان وشابات سوريا، وما قدموه من تضحيات جسام في مختلف أنحائها، بوصفها أمثلة على أخلاقية الثورة وطهرانيتها الشديدة، بالرغم من أن ممارسات الاعتقال والتصفية والقتل شملت جميع من كانوا لا يملكون سوى حناجرهم وأجسادهم وكاميرات توثق جرائم النظام، في وقت شمل فيه القتل كل من كان يحاول إنقاذ جريح، أو يحاول تأمين دواء أو غذاء أو لباس.
وقد ضربت كل من داريا وحرستا ودوما والمرجة ومدارس وجامعة حلب وكفرنبل وبنش وسواها أمثلة على بطولة مفهومية، بوصفها أمكنة أجساد لمحتجين سلميين قدموا من سائر مناطق سوريا، وشهدت حالات جامعة لمختلف مكونات الشعب السوري، بل وشكلت أيقونات للوحدة الوطنية.
ولعل السوريين ومعهم شرفاء العالم، لن ينسوا حمزة الخطيب ولا غياث مطر ولا باسل شحادة ولا سواهم من عشرات آلاف الشهداء، الذين لا تذكر أسماؤهم في وسائل الإعلام، ولم يحملوا سلاحاً في حياتهم.
صور الشهداء
ولعل الثورة السورية ارتبطت رمزياً بصور شهداء المجازر المحمولين على الاكتاف، فيما المشيّعون لم يسلموا بدورهم من أعمال القتل، بل يتعرضون على الدوام للقصف بمختلف أنواع الأسلحة، ويتحولون بدورهم إلى شهداء، لتتحول مواكب التشييع إلى حدث رمزي، يرتبط بحدث الثورة التاريخي، وتنتج عنه مركبات ودلالات، ورسم معنى جديد للبطولة، بوصفها تجسيداً لرفض الإذلال والمهانة والخنوع، لذلك ليس مصادفة أن يطالب المحتجون السوريون، الذين خرجوا منذ بداية الثورة، باسترجاع كرامتهم المهدورة.
وتجسد هذا المطلب في شعار ثورتهم التأسيسي، حيث انطلق شعار “الشعب السوري ما بينذل”، في أول مظاهرة عفوية ملأت ساحة الحريقة بقلب دمشق التجاري في السابع عشر من فبراير/شباط 2001، ثم تأقلم هذا الشعار في مدينة درعا في صيغة: “الموت.. ولا المذلة”. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل دخل إلى كوجيتو الثورة السورية في العبارة التي نطق بها أحد السوريين (أحمد عبد الوهاب)، حين صرخ بكل جوارحه دون خوف أمام الكاميرا: “أنا إنسان.. ماني حيوان”.
والواقع هو أن المحتج السوري تحول إلى مشروع شهيد، ولم يجنح نحو الاستثمار المفرط للتظاهر من أجل التظاهر، ولم يواجه جيش النظام وأجهزة أمنه وشبيحته من أجل الموت، بل من أجل التحرر والخلاص من الاستبداد، أي كي ينال حريته وحقوقه، ويحقق تطلعاته في سوريا جديدة. سوريا الدولة الوطنية المدنية. دولة المواطنة المتساوية والتعددية والديمقراطية، لذلك اقتضى الأمر الدفاع عنها، واقترنت الثورة بالحرية والتحرر، وبات للثورة مكون عسكري من أجل رد العدوان وتحرير الإنسان وتحرير وطنه.
وإن كانت ثمة علاقة بين الثائر السوري وسلوكه الحياتي، وبين الثورة التي يستشهد من أجلها، فإنها لم تأخذ شكل علاقة الضرورة الإلهية إلا حين ترك السوريون يواجهون وحدهم الموت على أيدي قوات النظام، دون أن ينصرهم أحد على الظلم، وبات شعار “يالله ما لنا غيرك” يلخص طوراً جديداً من الثورة، استعانت فيه بشبابها الذين حملوا السلاح، وبضباطها وجنودها الذين رفضوا إطلاق النار على ذويهم وأهاليهم. وراح جيش الثورة يدافع عن حاضنة الثورة وناسها.
المقاومة والمواجهة
وإن كانت الثورة السورية قد كشفت طبيعة احتلال سلطة النظام الأسدي للدولة والمجتمع، فإنه مع توغل النظام الأسدي في أعمال القتل دون رادع أخلاقي أو إنساني، فرض على ناس الثورة أمر مقاومة أعمال القتل بوصفه أمراً غير مستحيل التحقق، مما يعني أن المقاومة ليست سلبية، بل عاملاً من عوامل الضرورة للحرية والتحرر.
ودخلت الثورة السورية في مواجهة نظام مدعوم من طرف محور دولي، متمثل في النظامين الإيراني والروسي، إضافة إلى حزب الله الإيراني وأطراف طائفية عراقية، وسواها.
وراح الثوار يخوضون قتالاً بإمكانياتهم العسكرية البسيطة ضد تحالف أنظمة معادية للحرية وللتحرر، فكبر حجم التضحيات بالأرواح والممتلكات والمرافق، وبات من المستحيل التراجع بعد سقوط عشرات آلاف الشهداء، بينما عجز المجتمع الدولي عن ردع النظام، وراح يتعامل مع الثورة بوصفها أزمة عقد من أجلها الاجتماعات والمؤتمرات العديدة، التي تفنن فيها السياسيون الغربيون في إطلاق تصريحات جوفاء، تعلو نبرتها ضد النظام حيناً، وتخفت في غالب الأحيان.
وفيما توغلت إيران في دعم النظام عسكرياً ومالياً وسياسياً، وتعاملت مع سوريا وكأنها المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون، معتبرة أن سقوط النظام السوري نكبة لها، وليس خسارة فقط، يتملك الملالي الحاكمين والقابضين على مقدرات الشعب الإيراني هاجس يصور خروجهم من سوريا بوصفه ضربة لتحكمهم بالوضع العراقي، وإضعافا لحزب الله اللبناني الذي يشكل ذراعا قوية لهم في لبنان. وبالتالي، فإن سقوط النظام يمثل بالنسبة إليهم خراب خيوط نسيج الشبكة المحورية التي نسجوها منذ عدة عقود في المشرق العربي، وصرفوا عليها كثيرا من أموال الشعب الإيراني.
كل ذلك ينضاف إلى خصوصيات الثورة السورية وهي تكمل عامها الثاني وتلامس عتبة عامها الثالث، من حيث إنها باتت ثورة وحيدة -أو لنقل ثورة يتيمة- تواجه ليس نظاما دموياً مدججاً بكافة أنواع الأسلحة، بل نظاماً تقف خلفه أنظمة تشبهه، وتخوض معارك من أجل بقائه واستمراره في القتل.
ثم إن تفرد الثورة السورية يكمن في التغير الذي طرأ على مسارها، خصوصاً في عامها الثاني، وتجسد في تحولها من ثورة تنشد الحرية إلى ثورة تنشد الحرية والتحرر. وتحولها إلى ثورة تحرر يكمن معناه في كونها فعلا مقاوما للقتل وللظلم والقهر، أي أنها فعل مناهض للاستبداد في مختلف صوره، ومناهض للاحتلال بمختلف أشكاله وتجسيداته.\
الجزيرة نت