الثورة السورية من الخارج : مواجهة متعددة المعارك
صادق أبو حامد
تتراكم أوجاع الشعب السوري، وتتراكم المآسي التي يعيشها على يد نظام بات أشبه ما يكون باحتلال ينتمي إلى العصور الوسطى، دون أن يستدعي ذلك حتى الآن توافقاً دولياً يحسم الصراع. معادلة تتطلب إجراء قراءة متأنية للمواقف الدولية من الملف السوري. قراءة تبتعد عن الأحكام المتسرعة، وعن نظريات المؤامرة والمؤامرة المضادة. قراءة تنطلق من حقيقة أن العالم لا يمشي على قدمين سوريتين، وأن العلاقات والمصالح الدولية أكثر تشعباً وعمقاً من ربطها بثنائية مع أو ضد الثورة السورية. فاستثنائية الثورة السورية من حيث صمودها، والوحشية التي تواجهها، قد تبرر أن يرى الثوار السوريون في ثورتهم مركزاً للعالم، غير أن ذلك لا يفيد في التحليل، ولا يوضح خارطة طريق تفيد الثورة في تقدمها.
روسيا: استثمار التوتر
بات من الواضح أن أكثر المواقف تأثيراً في الملف السوري، وإمداداً في عمر النظام، هو الموقف الروسي. فروسيا العضو الدائم في مجلس الأمن تستطيع نظرياً حسم مصير النظام بمجرد اتخاذها موقفاً ضده، وبالتالي تهديدها بالموافقة على تدخل عسكري في سورية. نقول نظرياً لأن هذا السيناريو ليس سوى أمنيات. لا شك أن هناك تغييرات طفيفة طرأت على الموقف الروسي بدأت بالضغط على دمشق للموافقة على خطة كوفي أنان، وبتلميحها أن بقاء الأسد ليس شرطاً للتوصل إلى تسوية سياسية في سورية، غير أن الخطوط العريضة للسياسة الروسية في هذا الملف ما زالت على حالها، ولعل المؤتمر الصحفي الأخير لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يمثل تأكيداً على نية روسيا كبح أي تسريع في حل الملف السوري، وأنها ما زالت مصممة على حماية نظام الأسد. لكن ثبات الموقف الروسي لا يتعلق جوهرياً باهتمام روسيا بهذا النظام، وإنما بجملة مصالح روسية أكثر بعداً وعمقاً.
لا ينقص القيادة الروسية الخبرة والذكاء لتعرف أنها لا تستطيع منع نهاية النظام السوري، وأن أقصى ما تستطيعه هو تأجيل هذه النهاية. التأجيل الذي بات يمثل بحد ذاته مطلباً للكرملين، فهو يمنح روسيا الفترة الضرورية لإعادة ترتيب أوراق المسرح الدولي بهدف إجبار الغرب على الاعتراف بدورها بما يتناسب مع موقعها الاقتصادي والعسكري، والوصول إلى توافقات في الملفات العالقة ومن بينها ملف نشر الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية. وهي الاستراتيجية التي تعتمدها الصين وإن بقدر أقل، فالصين مهتمة أساساً بتثبيت الجبهة الروسية الصينية التي ستحتاجها في ملفات جنوب شرق آسيا، خاصة بعد إعلان الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة والتي تهدف إلى تحقيق حضور عسكري لافت في جنوب آسيا.
النقطة المحورية في قراءة الموقف الروسي هي أن امتداد فترة الصراع في سورية لن يتسبب بأي خسائر للروس. أما الحديث عن سورية كمنطقة نفوذ أخيرة لروسيا فهذه ورقة خسرتها بعد مضي أشهر على الثورة السورية، واصطفاف القيادة الروسية خلف النظام. لذلك باتت القيادة الروسية متأكدة أنها لن تتمتع بميزات إيجابية في سورية ما بعد الأسد، ولا أعتقد أن تطمينات المعارضين السوريين في المجلس الوطني، وبشكل أكثر لدى هيئة التنسيق، يمكن أن تزن شيئاً لدى القيادة الروسية.
نظرياً كان بإمكان روسيا أن تكسب الثورة السورية، وبالتالي سورية الغد، لو أنها دعمتها باكراً، وساهمت في إسقاط نظام الأسد، في مشابهة لما فعلته الولايات المتحدة مع صديقها مبارك. غير أن الديمقراطية الأمريكية التي تحكمها مؤسسات تتمتع بتوازن واستمرارية في الاستراتيجية والتكتيك، لا تملكها روسيا التي يحكمها بوتين عملياً منذ ثلاث ولايات، وهو يبدأ الآن ولايته الرابعة. ففكرة التدخل الخارجي لدعم احتجاجات ديمقراطية في بلد ما هي بالضبط ما يخشاه بوتين، وهو ما يفسر الانتقادات الروسية اللاذعة للمجلس الوطني السوري لمطالبته بتدخل خارجي، باعتبار ذلك من الكبائر في عرف السلطة الروسية. القبول بفكرة التدخل الخارجي لدعم شعب مقموع سيجعل من روسيا، وأغلب حلفائها، هدفاً في المستقبل طالما أن الثغرات الديمقراطية في أنظمتها واسعة إلى حد يسهل معه دخول التأثير الخارجي بقوة. بقول آخر: إن سقوط نظام الأسد نتيجة دعم خارجي، يعطي فرصة جديدة للغرب لدعم المعارضة الديمقراطية الروسية، وهو آخر ما يتمناه بوتين المصدوم بصعود المعارضة بعد مضي أكثر من عقد على دفنها.
جانب آخر يفسر الاستراتيجة الروسية عنوانه اقتصادي. ليس الحديث هنا عن مرابح الاقتصاد الروسي في سورية، وهي صورة طالما بالغ المعلقون فيها، متناسين أن أغلب الأسلحة الموردة إلى النظام السوري هي ديون، وأن عشرة مليارات من هذه الديون حذفتها روسيا قبل سنوات. إن ما نعنيه بالمصلحة الاقتصادية هنا هي أسعار النفط والغاز. فروسيا كما هو معلوم تعتمد في اقتصادها على تصدير هاتين المادتين، ولا شيء يفيد اقتصادها قدر ارتفاع أسعارهما، الارتفاع الذي يمثل الضمانة الوحيدة لصمود الاقتصاد الروسي، وتلبية جزء من وعود بوتين الداخلية. ولعل تجربة الاتحاد السوفييتي تمثل خبرة مركزية بالنسبة لفلادمير بوتين. فاستمرار الأسعار المنخفضة للنفط في ثمانينيات القرن الماضي كان سبباً حاسماً في انهيار اقتصاد الاتحاد السوفييتي ومن ثم تفككه وانهياره كلياً. من هنا كانت استراتيجية بوتين عبر سنوات زعامته تفضل مبدأ استقرار التوتر في منطقة الخليج لضمان سعر مرتفع للمحروقات، ولعل هذه الاستراتيجية تفسر كذلك الموقف الروسي من الملف النووي الإيراني، فروسيا في الملف الإيراني تضمن من خلال دعمها الجزئي لإيران توتراً مستمراً، وبالتالي سعراً مرتفعاً للنفط والغاز، وتنشيطاً لمبيعات خبراتها النووية والعسكرية وهي الجزء المكمل لمصادر الاقتصاد الروسي.
وفق هذا التصور لا يبدو إنهاء الصراع في سورية هدفاً لروسيا بل إن الموقف الروسي يستند إلى جملة عناصر ربما كان أقلها أهمية هو سورية كبلد ونظام الأسد كحليف والسوريون كشعب يعيش مأساة إنسانية.
الولايات المتحدة: دعاية ناجحة.. بدم السوري
الانشغال الروسي باستثمار الملف السوري لا يختلف أخلاقياً عن الحالة الأمريكية أو الغربية، لكن اختلاف النظم والعلاقات الدولية تفرض مقاربة مختلفة.
قوة المجتمعات الغربية بفضل ديمقراطيتها والمؤسسات التي تدعم دولها، أمّنت لها سرعة الانتقال من دعم الدكتاتوريات إلى دعم الثورات. فالمهم بالنسبة إلى المؤسسة الدولة أن تحفظ علاقات جيدة وقابلة للاستثمار مع أكبر عدد من الدول. من هنا لم يكن مستغرباً بعد موقفها المؤيد لثورة مصر ومن ثم ليبيا، أن تتخذ موقفاً مماثلاً من الثورة السورية. هذا الموقف المؤيد كان قد تأخر في الحالة السورية لأسباب عدة، ربما كان أكثرها مباشرة هو تخوف إسرائيل من سقوط النظام الأسدي. لكن هناك أسبابا أخرى أكثر تركيباً، تجعل الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، مستفيداً من استمرار الصراع بين الثورة والنظام.
لعل أهم ما يميز سورية في عيون مراكز القرار الغربي هو مجاورتها لإسرائيل، ومجاورتها لجغرافيا الطاقة في الخليج العربي. وعندما نتحدث عن الخليج فإن الملف الشائك الحقيقي هو الطموحات الإيرانية وملفها النووي، خاصة بعد أن انتهى الاحتلال الأمريكي للعراق إلى نتائج باهتة استراتيجياً، وكانت الحصيلة وضع العراق في منطقة التأثير الإيراني.
لكن إذا كانت مشكلة الولايات المتحدة الأساسية مع إيران، فلماذا لم توجه لها ضربة عسكرية حتى الآن، أو لماذا لا تضرب النظام السوري باعتباره يدها الطولى في المنطقة العربية؟
ربما يتم هذا الأمر أو ذاك أو الاثنان معاً في فترة لاحقة، إلا أن الواضح أن الولايات المتحدة لا تستعجل هذه اللحظة، فاستمرار الصراع في سورية واستشراس النظام السوري في البطش مخلفاً مشاهد وشهادات تتجاوز الخيال بشاعة ووحشية، هي ممارسات يفيد استمرارها بالمحصلة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل. فمشاهد الرعب التي أنتجها النظام السوري تفوقت بدرجات على مشاهد القمع والقتل والتعذيب التي تمارسها إسرائيل، ومارستها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. ما يجعل من النظام السوري، ومن خلفه حليفه الإيراني، يحتل المرتبة الأولى في سلم العداء لدى الشعب السوري، ولدى شرائح واسعة من الشعوب العربية. كما أن السمة الطائفية لدى النظام السوري وتحالفه مع إيران وحزب الله وحكومة المالكي في العراق، وجميعها جهات تعلن مذهبيتها الشيعية في السياسة، يثير حفيظة وحساسيات الغالبية السنية في العالم العربي، الأمر الذي جعل النظام السوري كما إيران وحزب الله يخسرون قاعدة جماهيرية واسعة كانت تربطهم بالمقاومة. دون أن ننسى أن خطاب المقاومة الإيديولوجي لهذه الأطراف أصيب في مقتل بعد انكشاف موقفه من الحرية وقيمة الإنسان. فعن أي مقاومة يتحدث هذا الخطاب إذا كان مقتل الآلاف من شعبهم وعلى يدهم يبقى مبرراً. إن الوحشية المذهلة التي أظهرها النظام السوري تجاه شعبه لم ينزع عنه شرعيته في عيون الجماهير العربية ويسقط ادعاءاته بالمقاومة فقط بل عن كل من سانده أو ميّع موقفه وأولهم إيران وحزب الله.
هذا التحول في المزاج الشعبي والرأي العام العربي جعل الفكرة التي كانت تدور في دواوين القرار الخليجية باعتبار إيران هي العدو الأول، تلقى قبولاً على المستوى الشعبي، ربما ليس بتقديم إيران على إسرائيل، وإنما بالنظر إليها كعدو حقيقي للمصالح العربية من جهة، وللإسلام السني من جهة أخرى.
ترجمة هذه الصورة في الملف السوري تعني أن استمرار الصراع بين الثورة السورية والنظام، هو أشبه بدعاية هائلة الفاعلية للمشروع الأمريكي، دعاية تجعل من حرب أمريكية قريبة في المنطقة ضد إيران ومشروعها حرباً شعبية وللمرة الأولى. الحرب التي سواء وقعت أم لم تقع ستدير عجلة الاقتصاد الأمريكي والغربي عموماً بفضل انتعاش مبيعات الأسلحة، وازدياد اعتماد دول الخليج على الحماية الأمريكية للحفاظ على استقرارها ومستواها المعيشي. الولايات المتحدة بهذا المعنى تراكم حطب الحرب في كل يوم يمعن فيه النظام السوري بوحشيته، وتستثمر مواقف إيران وحزب الله وحتى روسيا الداعمة لنظام الأسد كأفضل دعاية ضد أعدائها، وهو ما لم تستطع إنجازه طوال عشرات السنين من الدعاية صرفت فيها المليارات.
الخليج: سورية.. حرب الخليج الرابعة
الحجة الأكثر تكراراً لدى المدافعين عن النظام السوري هي طعنهم بالأهداف التحررية للثورة السورية طالما أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية وقطر، تدعم هذه الثورة، وسؤالهم المكرر: هل يمكن أن تكون هذه الدول مهتمة بإحلال نظام ديمقراطي في سورية وهي أبعد ما تكون عن الممارسة الديمقراطية؟ سؤال يبدو منطقياً لولا أنه خاطئ في أساسه، فمن قال إن دول الخليج ترفع الشعار الديمقراطي في دعمها للثورة السورية؟!.
لنتذكر أن دعم دول الخليج للثورة السورية أتى متأخراً. بل إن الأشهر الخمسة الأولى من الثورة لم تشهد ولو تصريحاً عربياً واضحاً ضد النظام السوري أو لصالح الثورة. لكن صمود الثورة السورية، وفشل آلة النظام العسكرية في قتلها، فرض على هذه الدول اتخاذ موقف يتماشى إلى حد ما مع الرأي العام العربي والإسلامي. صحيح أن تأثير الرأي العام ضعيف في المنطقة، إلا أنه لا يمكن إهمال تأثيره في القضايا الحاسمة، وإلا كيف نفسر عدم توقيع السعودية، التي ليس لديها أراضي محتلة، اتفاقية سلام مع إسرائيل، بينما لم يتوقف النظام السوري ‘المقاوم’ عن تأكيد استعداده لتوقيع هذه الاتفاقية إذا ما انسحبت إسرائيل من الجولان المحتل؟! أما السبب الجوهري الذي يفسر حماس دول الخليج لدعم الثورة السورية، فيكمن في تفاصيل معركتها الإستراتيجية مع إيران.
التوتر الإيراني العربي في الخليج لم ينقطع ولو للحظة منذ عقود، صراع يختلط فيه السياسي والاقتصادي والعقائدي، ولا نتجنب الموضوعية إن قلنا بأن ما يؤجج هذا الصراع في السنوات الأخيرة هو طموحات إيران بالحضور في جميع ملفات المنطقة، وإعلان نفسها سيداً على الخليج العربي. وهي سياسة إيرانية مستمرة، فإيران الشاه كان صوتها الأعلى بفضل الدعم الغربي، وإيران الخميني تصر على أن يكون صوتها الأعلى بفضل معاداتها للغرب.
لا شك أن إرادة توسيع النفوذ الإيرانية تتميز بالذكاء والتعقيد، فإيران تنصب نفسها مرجعاً للشيعة دينياً وسياسياً، وبالمقابل تخفف من حدة هذا التوجه الطائفي في فضاء سني من خلال رفع القضية الفلسطينية شعاراً. لقد استطاعت إيران بفضل عزفها على وتر القضية الفلسطينية تمرير خطابها الإيديولوجي القومي والمذهبي. لكن مركّبات هذا الخطاب بدأت تتهاوى، فقد تصاعدت الحساسية القومية العربية ضد إيران مع تجربة العراق الذي بات يعيش تحت التبعية الإيرانية، إضـــــافة إلى الاستفزازات الإيرانية في الجزر الإماراتية المحتلة، وإثارة أكثر من مشكلة تخص فرض تسمية الخليج الفارسي على الخليج العربي.
بينما مثّل الحضور الإيراني في الملف السوري، لحــــظة تحول جذرية في صورة إيران في المنطقة العربية. فقد كشفت الثورة السورية الوجه البشع للنظام الإيراني، وانهارت كلياً هالة الممانعة التي كان يغازل بها مشاعر الشعوب المقهورة، ليصعد لدى الشارع العربي الشعور القومي العربي، والشعور المذهبي السني، ضد طموحات قومية طائفية إيرانية. أما النموذج الإيراني الذي كان يحمل بعض البريق في عيون الشعوب العربية المقهورة، فلم يعد ذا قيمة بالنسبة لهذه الشعوب بعد أن استعادت ثقتها بنفسها، وبفعلها التاريخي، ولم يعد يناسبها نموذج نظام ظهر استبداده من خلال قمع مظاهرات الثورة الخضراء التي تلت الانتخابات الرئاسية الإيرانية.
من هنا تبدو ادعاءات الساسة الإيرانيين بأن الربيع العربي يصب في مصلحة إيران بعيدة عن الواقع، بل إن إيران ربما تكون الخاسر الأكبر من هذه الثورات. ولا أظن أن القيادة الإيرانية جاهلة بهذه الحقيقة، لكن قلة خيارات الجمهورية الإسلامية في هذه المرحلة الحرجة ستجعلها تتلاعب بالملفات العراقية والسورية واللبنانية إلى الحد الأقصى في سبيل الوصول إلى اعتراف بإيران نووية. فوعي القيادة الإيرانية بالمفترق التاريخي الذي تعيشه المنطقة، يجعلها تدرك أن مخرجها الوحيد لضمان موقعها المستقبلي، قبل أن تقطع أذرعها في المنطقة، هو الخيار النووي.
هذا الارتباط الاستراتيجي بين صراع دول الخليج العربية وإيران من جهة، والنظام السوري والثورة السورية من جهة أخرى، يفسر المواقف الأكثر تقدماً من قبل دول الخليج لصالح الثورة، ودعمها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. ارتباط المصير الذي يفسر موقف دول الخليج من الثورة السورية لا يتعلق إذن بأهداف الثورة التحررية، وهي آخر ما تتمنى دول الخليج وصوله إلى عتباتها، وإنما باعتبار أن سورية اليوم تشهد واحدة من أهم معارك هذه الدول مع إيران، معركة على درجة عالية من الأهمية والحساسية جعلت السعودية تتجاوز الرغبات الأمريكية لتقوم بدعم مباشر وعلني للثورة السورية بالسلاح، ومحاولة رفع نوعية هذا السلاح رغم الاعتراض الأمريكي.
أما لماذا لا تريد أمريكا والغرب تسليح الجيش الحر بأسلحة نوعية، فذلك مرتبط بمعضلة أولوية المصالح الإسرائيلية في المنطقة. فأسلحة نوعية بيد الثوار هي قضية تثير المخاوف من امتلاك جماعات إسلامية متطرفة لها فيما بعد، والأخطر بالنسبة إلى الغرب هو التهديد الذي يمكن أن تشكله هذه الأسلحة عندما تصل إلى مجموعات مقاومة ضد إسرائيل في سورية ما بعد سقوط النظام. البلد الذي، حتى وإن لم يتخذ خطوات عملية ضد إسرائيل، سيكون من الضعف عسكرياً وأمنياً إلى درجة تجعل من المستحيل حفظ حدود الجولان المحتل آمنة هانئة كما كان حالها على امتداد أربعة عقود.
لولا هذا التفصيل الجوهري لكان الجيش الحر بإنجازاته الملفتة، واستيعابه لضربات النظام طوال شهور، فرصة للغرب لحسم المسألة دون التفاوض مع روسيا. ويبدو أن التردد الغربي الواضح في التحرك عملياً ضد النظام السوري فرض بالتوازي تردداً تركياً. تركيا البلد الذي قطع شوطاً في مشروعه كجسر اتصال وتأثير بين الشرق والغرب، قبل أن يجد نفسه في مواجهة ملف مشتعل ومعقد على حدوده الجنوبية.
تركيا: الرهان على الثورة
الثورة السورية، كواحدة من ظواهر الربيع العربي، لم تبدُ غريبة بالنسبة إلى تركيا، لذلك وجدناها تسارع إلى التصريح بفهم أسباب ومبررات مطالب الشعب السوري، غير أن البلد الجار لسوريا، والذي بنى علاقات وطيدة بالنظام السوري، لم يكن يعرف جيداً كما يبدو طبيعة هذا النظام، وهو ما يفسر مطالبته النظام السوري بالإصلاح، والتهديد بعد ذلك بمواقف جذرية إذا لم يتراجع عن قمعه. تهديدات ظهرت في المحصلة أكبر بكثير من قدرات تركيا، وهو ما خلف حالة من الإحباط والغضب لدى الثوار السوريين.
مع ذلك لا يمكن لأحد أن يقلل من شأن الدعم التركي للثورة السورية، ليس فقط من خلال استيعاب اللاجئين، ومنح مساحة للمعارضة السورية لتعقد مؤتمـــراتها الأولى، ومن ثم تشكيل المجلس الوطني، بل قبل كل ذلك لاستيعابها قيادات عسكرية للجيش السوري الحر والمجلس العسكري، ناهيك عن كل الدعم المادي والعسكري الذي تسمح بمروره عبر الحدود التركية السورية. وهي مواقف جريئة في العرف السياسي تجاه دولة جارة. أما التقليل من أهمية الموقف التركي من خلال مقارنته بما انتظره الثوار، وهو أساساً تدخل عسكري تركي عبر مناطق عازلة ضد جيش النظام، فهو أمر لا يستقيم. فلأي سبب ستدخل تركيا حرباً مع نظام قادر على إيذائها عسكرياً وأمنياً، وكيف يمكن لحكومة ديمقراطية أن تقنع شعبها بدخول حرب حقيقية دون وجود موجبات تتعلق بالمصلحة المباشرة للشعب التركي، فالمبرر الإنساني المتعلق بإنقاذ شعب جار من وحشية حكامه يصعب أن يكون سبباً مقنعاً للأتراك بدخول الحرب، وخاصة إذا لم يتوفر الغطاء الغربي.
لكن تركيا التي تعتبر أول البلدان التي راهنت على الثورة السورية، تدرك أنها باتت معنية بشكل مباشر بالملف السوري، وهي تمثل، إلى جانب دول الخليج العربية، الأطراف الأكثر رغبة في تعجيل انتصار الثورة، لأن استمرار النظام يعني استمرار التهديدات الأمنية، وتزايد التوتر مع الجارة إيران، إضافة إلى أن سقوط سورية في فوضى مسلحة، أو حرب طائفية، سيترك أثاره السلبية المباشرة على الدولة والمجتمع التركيين.
إن شبكة المصالح التي تحيط بالثورة السورية، تفرض على الثوار رسم خططهم وتحالفاتهم بناء على موازين المصالح المشتركة، وعدم التعويل كثيراً على حسم متخيل من الدول الكبرى، فعندما نعلم أن ثمانين في المئة من تجارة السلاح في العالم تحكمها الدول الخمس دائمة العضوية، بينما ينتظر منها تحقيق السلام العالمي، ندرك حجم الرياء السياسي الناظم للعلاقات الدولية. بالمقابل لا معنى، ولا فائدة، من قراءة المشهد الدولي بمنظار يتوهم مؤامرة يتفق فيها الجميع ضد الشعب السوري، إنما هي طبيعة العلاقات الدولية ومطامح الدول حسب حجمها، لذلك عادة ما تكون الدول الصغرى محل استثمار واستغلال. والدول المصابة بالاستبداد أكثر عرضة لذلك من سواها، كونها دول ضعيفة من الداخل وغير محصنة. ففي ظل الاستبداد يصبح هدف الدولة هو قوة النظام، بدلاً من أن يكون هدف النظام هو قوة الدولة.
‘ كاتب فلسطيني سوري يقيم في باريس
القدس العربي