صفحات سوريةعمر قدور

الثورة السورية من «صمتكم يقتلنا» إلى «صمتكم يقتلكم»!


عمر قدور

قلما يتم الانتباه إلى الكلفة التي يتكبّدها النظام السوري في مواجهة الثورة، وبخاصة الكلفة البشرية التي راحت تتزايد في الأشهر الأخيرة، أي مع اتجاه النظام إلى استخدام المزيد من العنف أملاً بحسم سريع وعد به أنصاره منذ أكثر من سنة!. ومن المؤكد أن عدم الاكتراث العام هذا يرجع إلى هول أعمال القتل التي تطال المدنيين السوريين أولاً، فلا يعود ثمة فرصة للاكتراث بخسائر الجناة، فقتلى النظام قضت غالبيتهم العظمى في مواجهات كانوا فيها هم الطرف المهاجم، ويندر عدد الذين قُتلوا منهم في أعمال هجومية لكتائب الجيش الحر ذات القدرة التسليحية المتواضعة أصلاً.

لا توجد معلومات معلنة وموثقة عن قتلى قوات النظام، كما تنعدم المصداقية في الأرقام المصرّح عنها، إذ من المعتاد أن يُعلن عن أرقام القتلى فقط، عندما يتم استثمارها في لحظات الإحراج الدولي الشديدة، ومن أجل الظهور بمظهر الضحية، أو على الأقل من أجل الحصول على نوع من المساواة بين المجازر الجماعية بحق المدنيين وقتلى الاشتباكات العسكرية. فيما عدا ذلك، لا يبدي النظام ذاته أدنى اكتراث بالعدد المتصاعد من القتلى في صفوف أنصاره. بل يبدي التصميم على البقاء مهما كلف الأمر، بما أن من يدفعون الكلفة هم على الأغلب الموالون، الذين لا وزن لهم في سلم السلطة. ومع ازدياد الخسائر في صفوف مواليه، لا يجد مبرراً للإبقاء على تماسك صفوفهم سوى التصعيد الطائفي، لكي يظهر كضامن لسلامة الطائفة، بينما في الواقع يستخدم أبناءها كدروع بشرية تحميه.

قياساً إلى الخسائر البشرية في صفوف الثورة تأخر النظام عدة أشهر في تكبد خسائر مماثلة، إذ من المعلوم أن الثوار أصروا حينها على السلمية المطلقة للثورة، ورفعوا شعارات من نوع «إن بسطتَ يد لتقتلني فما أنا باسط يدي لأقتلك». إلا أن دعوات السلمية لم تفلح في ثني النظام عن مواصلة القتل والتنكيل، بل أمعن في الاستخدام المفرط للعنف، وعلى وجه خاص لم تنجح دعوات السلمية في كسب التعاطف من فئات اصطفت مع النظام منذ البداية، وكان من المأمول تغيير موقفها بعدما شاهدت فظائعه المرتكبة على امتداد الأراضي السورية. ففي 29/7/2011 أطلق ناشطون سوريون على ذلك اليوم تسمية «جمعة صمتكم يقتلنا»، وكانت بمثابة استغاثة صارخة موجهة للكتلة الصامتة من السوريين، لأن هذا الصمت وفر الغطاء لفظائع الأمن والشبيحة، مثلما وفر الغطاء للرواية الإعلامية الرسمية التي تدعي تمثيل كتلة اجتماعية واسعة، وإن أخذت بالتآكل التدريجي لتتوقف عند ادعاء تمثيل طوائف بعينها مستثمرة في الخوف الأقلوي.

خلافاً للوقائع نجح النظام في ترويج روايته عن كون الثورة السورية ذات طابع طائفي أصولي سني، ولا يزال هذا النجاح يُحتسب له في صفوف الأقليات الدينية أو الطائفية التي لم تشجعها مشاركة بعض شبابها في الثورة على رؤية دقيقة لما يحدث. وعلى الدوام خلّف الإعراض الأقلوي غصة في نفوس الثائرين لما له من أثر يفوق بعمقه اتهامات النظام، ورغم التأكيد المتواصل من قبلهم على وطنية الثورة بأهدافها وممارساتها، إلا أن الواقع راح يفرض خطاً من المواجهة لا يتوقف عند قوى السلطة المباشرة بل يتعداها إلى الفئات الاجتماعية الداعمة لها بقوة، والتي للأسف تأخذ في بعض الأحيان منحى طائفياً صارخاً.

بدايةً لم يجد المتظاهرون مناصاً من ردع قطعان الشبيحة التي تروّع المتظاهرين السلميين، فلجأوا إلى استهداف أفراد منهم خارج التظاهرات، بغية إفهامهم باللغة الوحيدة التي يتقنونها أن المتظاهرين طفح الكيل بهم، ولن يصبروا إلى ما لا نهاية. لكن الشبيحة، الذين يتم تصويرهم غالباً على أنهم فئة اجتماعية خاصة، ليسوا في الواقع شريحة منبتة اجتماعياً، ولهم أيضاً حيثياتهم الاجتماعية التي توفر لهم الحصانة والحماية، وتوفر لهم الدعم عند اللزوم. ومما لا شك فيه أن جزءاً مما سمي «الكتلة الصامتة» لم يكن صمته دلالة على الخوف من النظام، أو دلالة على التريث الانتهازي بانتظار انجلاء أوضح لموازين القوى على الأرض، فقد تكشف هذا الجزء عن اصطفاف شديد بجانب السلطة، ولم تستنهض مجازرها أدنى حالات التعاطف مع الضحايا، أما الذين خرجوا عن صمتهم من هذا الجزء فكانوا أقرب إلى التشبيح الإعلامي، وبعضهم طالب بالمزيد من القمع، واستقوت بهم صفحات المؤيدين على مواقع التواصل الاجتماعي لتتشفى بجثث الضحايا وبذويهم.

لم يكن للمساحة الواسعة من الصمت التي رافقت بداية الثورة أن تستمر إلى ما لا نهاية، فخرجت كتل كبيرة عن صمتها وانضمت إلى الثورة، وفي المقابل خرجت أصوات أقل عدداً، ولكنها ليست بلا تأثير، لتجهر بوقوفها إلى جانب النظام، وبالتالي لا تترك مجالاً للشك أو التأويل، وليس مفيداً إنكار حقيقة أن الذين جهروا باصطفافهم النهائي إلى جانب النظام فعلوا ذلك لأسباب يغلب عليها النزوع الطائفي، بعد الترويج طويلاً لرُهاب أقلوي من التغيير. لقد سعى البعض إلى ترويج مقايضة بين القمع الوحشي الذي يتعرض له الثوار والخوف الأقلوي من المستقبل، أي مقايضة الموت اليومي بافتراضات لا تؤكدها سوى دعاية النظام، ولأن هذه المقايضة مغشوشة أساساً لم تنفع كل التطمينات التي ساقها المعارضون في زعزعة المخاوف الأقلوية التي ازدادت تماسكاً وتصلباً. الصمت، الذي لم يعد ممكناً تأويله على محمل آخر سوى الموافقة على القتل أو المشاركة فيه، تضاءل فيه هامش المناورة إلى أقصى الحدود، أما شعار «صمتكم يقتلنا» فقد تخلى عن نبرته الحزينة السابقة ليكتسب إشارة اتهامية واضحة المعالم.

لقد كان محتماً ألا يتحمل الثوار الضيمَ إلى ما لا نهاية، وأن يندفع قسم منهم إلى حماية الثورة بقوة السلاح، وبالتالي أن ينقلب صمت الموالاة عليها أيضاً، فيصبح صمتاً قاتلاً على الجهتين. دفعت الثورة ثمناً باهظاً من دماء أبنائها بسبب ذلك الصمت المتواطئ مع القتل، وأعاق ذلك إمكانية تحول الثورة إلى عصيان مدني عام يشل قدرة النظام الأمنية. لو أن الفئات الاجتماعية الحاضنة للشبيحة اتخذت منهم موقفاً رادعاً، ربما كانت الأمور سارت على نحو مختلف. لو أن الفئات ذاتها في المقابل لم تتبرأ علناً من أبنائها المشاركين في الثورة ربما كانت أرسلت إشارة مختلفة عن صمتها، لو أن هذه الفئات تململت قليلاً من ممارسات النظام تجاه أشقائها في الوطن ربما أعاد حساباته، ولم يتجرأ على تصعيد القمع بشكل سافر. لو أن ذلك كله حدث لما باتت المناطق الموالية تستقبل كل يوم جثث العشرات من أبنائها؛ أولئك البؤساء أيضاً الذين يضحي بهم النظام ليطيل مدة بقائه، من دون أن يقدّم لهم سوى المزيد من الخوف على المستقبل.

صمتكم يقتلنا ويقتلكم؛ ربما هذه هي الصيغة الأكثر واقعية التي يدركها الكثيرون اليوم، فالسقوط التام للنظام داخلياً لن يتحقق إلا بتحول الصمت المتواطئ إلى صرخة ضد النظام، ومع الأسف ربما لا يتحقق ذلك إلا مع تفاقم عدد القتلى، أي عندما يسأل الموالون أنفسهم عن جدوى الزج بشبابهم في حرب لن يربحها النظام على كل حال، وسيخسرونها هم في مطلق الأحوال.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى