الثورة السورية هي ثورة الاستقلال بالدرجة الأولى
وسام سعادة
عندما تفرّد سمير قصير، ولسنوات سبقت ومهّدت لاستشهاده، فراح يربط بشكل عضوي، وتاريخي، وسياسي، في آن، بين استقلال لبنان وديموقراطية سوريا، لم يكن الاناء السوري ينضح بما سيتبين لاحقاً انه كامن، ملتهب، فيه الى هذا الحدّ، وكان الخطاب السيادي اللبناني التقليدي يربط هدف جلاء الوصاية بعدم تدخّل أي من البلدين بشكل نظام الحكم الذي يختاره البلد الآخر.
وكان سمير قصير يبدو في هذا الاطار مثالياً من ناحية ان الواقع السوري لم يكن يوحي بهذا القدر من اللهيب الذي سيتبين لاحقاً انه يحتقن فيه. بدت انتفاضة القامشلي وبشكل متسارع واعدة، محاصرة، طرفية، معزولة، محبَطة، ثم محبِطة، والاخطر ان تمكن النظام من قمعها سوّق لنفسه كحيوية مكتسبة ومتجددة لنظام يبرع في الفصل بين الأنسجة المختلفة للمجتمع السوري او اعادة الوصل ثم اعادة الفصل بينها بالشكل الذي يزيده سطوة وغطرسة. اما المعارضات في الداخل والخارج، وبين المنافي والسجون، فما كان واقعها بقادر على الانباء بأن ثورة يمكنها أن تأتي من شعب عمل النظام على فصله عنها، على امتداد عقود، وعلى تجزئته الى معازل مشككة ببعضها البعض.
وعليه، حين اندلعت انتفاضة الاستقلال اللبنانية، في وجه الوصاية العسكرية والمخابراتية السورية وعملائها الامنيين اللبنانيين، ما كان يبدو ان الشعلة الديموقراطية ستنجح في التمدّد الى الداخل السوري، بشكل مباشر، وخصوصاً ان النظام البعثي الفئوي كان يتحصّن وراء العنصرية اللبنانية ضد العمالة السورية في لبنان، ويحاول استخدامها على سبيل تلفيق عصبية وطنية سورية تستحضر فقط عندما يفترض صدّ أي عدوى تغييرية آتية او محتملة من لبنان.
كذلك، لم يكن يبدو أن الانسحاب السوري سيؤدي الى فرط النظام البعثي او تفسخه بشكل كبير، ذلك ان الانسحاب كان يظهر من الجهة السورية حامياً لنفسه بنفسه من العدوى اللبنانية، من خلال نجاحه في تقسيم اللبنانيين الى ساحتين متواجهتين، ومن هنا كانت حاجة منظومة الممانعة الى ارتكاب جريمة العصر المتمثلة بتفجير موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، ثم استتباعها بحرب سرية من “الاغتيالات المتسلسلة”، تستهدف في مجموعها اعاقة عملية تحقق وطنية تعددية لبنانية متصالحة مع نفسها ومع جوارها.
مرّت سنوات عديدة، وفي النهاية اندلعت الثورة، عارمة، مصممة، أسطورية، في سوريا. لم تكن العلاقة بين آذار اللبناني و آذار السوري علاقة سبب ومسبب طبعاً، ولا ملهِم وملهَم، ولا علاقة مباشرة من أي نوع، لكنها تبقى علاقة صميمة، وجوفية، تعكس الى حد كبير مشكل التحقق الكياني الوطني المتصالح مع نفسه ومع جواره في كلا البلدين. علاقة احتاجت الى ست سنوات من الاختمار، وكان عليها ان تمرّ بطريق متعرّجة وشاقة، من تونس الى مصر فاليمن فليبيا فسوريا. مع هذا، يبقى انه على صعيد الاشكاليات المطروحة تبقى الثورتان اللبنانية والسورية على صلة ببعضهما البعض على نحو وثيق، وهو ما لا يتأتى فهمه الا من خلال العودة الى ثنائية سمير قصير “استقلال لبنان وديموقراطية سوريا”، انما للاضافة هذه المرة، ومن وحي الثورة السورية، ان الاشكالية الرئيسية وقبل ديموقراطية سوريا، هو استقلال سوريا. ولا عجب ان يرفع أحرار الشام المنتفضة علم استقلال بلادهم.
فقبل ان تكون الثورة السورية ثورة من اجل الديموقراطية، فهي أساساً ثورة من اجل الاستقلال، وثورة في معنى الاستقلال نفسه. قبل ثورة الارز اللبنانية والثورة السورية، كان يطغى على مفهوم الاستقلال تفسيره في سياق التحرر من الاستعمار الاجنبي القادم من وراء البحار، اي في سياق معاداة الامبريالية “البحرية” والمجتمعات الاستيطانية القادمة عناصرها من بعيد لاستحلال ارض غيرها (المجتمع الكولونيالي الفرنسي في الجزائر، جنوب افريقيا، اسرائيل)، وكان ينظر الى أي حق شعب في الاستقلال بنفسه خارج هذا الاطار على انه تواطؤ مع الامبريالية ومجاراة لفلول المستعمر، بل شكل من اشكال “الاستعمار غير المباشر”.
مع الثورة السورية تحديداً، صارت الاحكام الجاهزة من هذا النوع بالية، ومبتذلة، وتكشف عن حقيقتها: بضاعة فاسدة في سوق الاستبداد الشرقي. ومن دون ان يكون للاستقلال معنى التحرر من مستعمر اجنبي او تحرر شعب من شعب يستأسد عليه قبالته، صار للاستقلال معنى جديد، معنى ثالث، خاص بالثورة السورية، وخاص ايضا بالمشترك التحرري بين الشعبين اللبناني والسوري، انه معنى التحرر من “الممانعة”، ومن كل مدرسة جزئية او كلية تسوق للاستبداد الشرقي في اي شكل من اشكاله، بحجة نقض الاستشراق، او الذود عن النفس في مواجهة الاستعمار غير المباشر، او اللاواعي او العائد. وفي الحالة السورية تحديداً، ضبط الاستبداد الشرقي في أحقر نموذج من نماذجه، البعث، الفئوي، الدموي، وهو يستعين بوسائل قديمة للمستعمرين في مواجهة السكان الاصليين، وبرطانة معادية للامبريالية الغربية في الوقت نفسه. القيمة الاساسية، المحلية قدر ما هي وطنية وعربية وأممية للثورة السورية، تكمن في انها تدفع بالامور للتحرّر من كل هذا.