الثورة السورية وأخطار الاستقطاب
رضوان السيد
ما انكشف المشهد الذي تجد فيه الثورة السورية نفسها، دون اختيار من أي من فرقائها، بمثل ما انكشف في حديث لرئيس الوزراء الروسي الحالي فلاديمير بوتين، على مشارف الانتخابات الرئاسية، فقد كان يتحدث عن محاولات الولايات المتحدة لإعادة فرض هيمنتها على المحيط الاستراتيجي لروسيا، ومن ضمنه إيران وسوريا، وعندما نبهه أحد الصحافيين إلى أن القياس قياس مع الفارق، فإيران في خصومة مع الولايات المتحدة، ومن حق روسيا أن تنحاز إلى هذا الطرف أو ذاك بحسب ما تراه من مصالحها، أما في سوريا فهناك ثورة عارمة على النظام، وروسيا الديمقراطية مع النظام وضد شعبه الثائر! قال بوتين: نحن لسنا ضد الشعب ومطالبه الإصلاحية، لكننا نريد من المعارضة الدخول في حوار مع النظام من أجل تحول سلمي يصون استقرار سوريا ووحدتها؛ والمعارضة ترفض بتحريض من الولايات المتحدة، وبعض العرب! وتابع السائل: لكن غالبية العرب، دولا وشعوبا، صارت مع المعارضة بسبب عنف النظام، والذين يقولون بدعم المعارضة بالسلاح هم عرب، في حين لا تزال الولايات المتحدة تتحدث عن دخول «القاعدة» إلى سوريا، وتتردد في الاستجابة لمطلب السلاح من جانب الثوار، وما أجاب بوتين على التساؤل الأخير، بل قال بشيء من الضيق ونفاد الصبر: الأميركيون ضد بشار الأسد لأنه حليفنا، والسعودية لم تفهمنا وأظهرت خصومة لنا، بينما لا نجد أحدا في مصر بعد الثورة هناك يمكن الحديث معه!
إذن هذا هو الوضع الآن: روسيا مع بشار الأسد، وإيران، لأنها تريد استخدام ذلك في الصراع الاستراتيجي على المنطقة مع الولايات المتحدة، والتي تقدم بدورها اعتبارات أمن إسرائيل على كل شيء آخر. فقد دعمت التغيير في كل مكان من دون تحفظ، أما في سوريا، رغم استمرار كلينتون بمطالبة بشار الأسد بالتنحي؛ فإن العسكريين الأميركيين مضى عليهم أسبوعان وهم ينبهون إلى تغلغل «القاعدة» بين الثوار السوريين، في حين تنبه وفود إسرائيلية زارت الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية إلى مخاطر انهيار النظام السوري.
الإسرائيليون ما عادوا مصرين على بقاء الأسد، لكنهم يريدون التأكد من «البديل»، وهم يفضلون أن لا يكون من «الإخوان المسلمين»! لكنهم متأكدون من خطر النووي الإيراني عليهم، ومتأكدون من ذراع إيران الطويلة بالعراق وسوريا الأسد ولبنان، وهذه المراوحة من جانب إسرائيل جعلت الأميركيين يراوحون، ثم زادت مراوحتهم عندما اتضح لهم مدى تمسك روسيا بسوريا الأسد، والاعتبارات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية التي تدفع الطرفين لعدم الاشتباك الذي كاد يحصل من قبل في كوسوفو وجورجيا، وقد شجع ذلك الروس على الإصرار على موقفهم الداعم للنظام السوري، والمواجه للمبادرة العربية.
وهكذا فإن الاستقطاب حاصل من حيث الوقائع على الأرض، وإن كان الروسي هو الثابت على مواقفه؛ بينما لا تريد الولايات المتحدة أن تكون في الواجهة، وقد حاولت ذلك في ليبيا بعد المرحلة الأولى، ونجحت في إخفاء دورها بالوقوف وراء فرنسا وبريطانيا ودول أخرى! وهكذا، فإن هذا الاستقطاب الروسي – الأميركي، الذي يصب في مصلحة إسرائيل وأنظمة الممانعة (التي تدعي هي مواجهتها)، يتفاقم أثره وتداعياته على قضية الشعب السوري، والشعوب العربية الأخرى التي تريد التغيير وتحاول تحقيقه بدمائها وتضحياتها. وهذا يعني – ما دام الروس والإسرائيليون… والأميركيون على هذا الموقف – أن التحرك الداخلي السوري هو ثورة داخلية، وليس مؤامرة قام بها الأميركيون والرجعيون لصالح إسرائيل ولإنهاء الممانعة! فإسرائيل مسرورة بموقف الروس من نظام الممانعة، والأميركيون – تحت ضغط اللوبيات الإسرائيلية – مترددون تجاه الثورة السورية بذريعة أنهم لا يعرفون من هي المعارضة بالتحديد، ولأنهم يشكون في تسلل «القاعدة» من العراق إلى صفوف ومناطق الثوار!
إن هذا الاستقطاب الدولي أعطى النظام السوري فرصة ودافعا وزمانا لمحاولة الفوز على الثورة واستعادة الغلبة تحت اسم الحل الأمني، والذي يوشك أن يبيد حي بابا عمرو، ومن ورائه مدينة حمص، كما حصل في عشرات النواحي الأخرى من سوريا العربية الثائرة.
وكأنما ما كفى السوريين الأباة هذا الاستقطاب المدمر؛ فقد دخل عليهم الرهان الإيراني، والرهان الإيراني مزدوج: فالإيرانيون يتصارعون مع الولايات المتحدة والعالم الغربي على النووي، وهم يتصارعون معها أيضا على مناطق النفوذ التي تهدد مصالحهم الاستراتيجية، سواء في الخليج أو على البحر المتوسط، والصراع على النووي يعني صداما مباشرا تقوم به إسرائيل، أو تقوم به الولايات المتحدة، أو تستبقه إيران بضربة هنا أو هناك، لكنه ينتهي أو يبدأ من الأرض الإيرانية أو عليها. ولذا فقد اختارت إيران خط دفاع أول بعيدا عن أراضيها ومن حولها في سوريا والعراق ولبنان، وهو رهان جعلها تصرح بالدفاع عن النظام السوري وكأنها تدافع عن الأرض الإيرانية، وقد جرّت معها إلى هذا الموقف حزب الله وبعض الأطراف في العراق والقطيف والبحرين والحوثيين في اليمن، وبؤرة التوتر والاهتمام الآن، بل ومنذ عام في سوريا، فإيران هي التي تحفظ تماسك النظام المالي واللوجيستي، وروسيا تساعد بالتسليح والإمداد، والحماية الاستراتيجية، وهي بذلك تقول للنظام الدولي: إنها لن تسمح بسقوط النظام السوري إذا لم يجر التفاوض معها كما تريد، إن لم يكن على النووي فعلى مناطق النفوذ التي سبق للولايات المتحدة أن منحتها إياها في خضم حربها على أفغانستان والعراق، أو أنها تركت ذلك يحدث.
إن الرهان الإيراني يضاف هنا إلى الاستقطاب الروسي – الأميركي في ظلم الشعب السوري، والمشاركة باستخفاف وتعجرف في سفك دمه، وتخريب حواضره، وقتل حرياته وحرائره وأطفاله؛ وكل ذلك بذريعة الحفاظ على نظام المقاومة في وجه المؤامرة الأميركية – الصهيونية؛ بينما هي تعلم عيانا وبيانا أن الإسرائيليين ليسوا أقل حرصا منها على الرئيس الأسد ونظامه!
وإذا شئنا الصراحة والبيان؛ فإن الاستقطاب والرهان على سوريا، ومن حولها، يقع في أصل سخط الشعوب العربية، وفي طليعتها السعودية، على هذا الظلم وهذا العدوان، فمن أجل إنهاء العنف ضد الشعب السوري، وعدم الدخول في صراع مع إيران وروسيا وغيرهما، دخلت السعودية بحماس في المبادرة العربية، ثم وجدت أن المبادرة صارت ذريعة لاستمرار الفتك بالشعب السوري، ولذلك انسحبت منها، ومضت باتجاه مجلس الأمن، وفاوضت هي وغيرها الروس والصينيين على حل وسط هناك، إلى أن فوجئت بالفيتو الروسي – الصيني، بعد حديث لافروف مع كلينتون بميونيخ، وقيل وقتها إن الروس طلبوا من الأميركيين ما لم يستطيعوا تلبيته! ولذلك أظهر الملك عبد الله بن عبد العزيز غضبه على الروس والفيتو، ومضت سياسته الخارجية باتجاه حل «دولي» آخر من طريق مؤتمر «أصدقاء سوريا» بتونس، وقد تذاكى بعض العرب والأتراك والدوليين لمحاولة إدخال روسيا في «الحل السلمي»، والعودة إلى مجلس الأمن لدعم الحل السلمي، لكن الروسي لا يستطيع الاستجابة قبل الانتخابات الرئاسية، وهو يحاول استنهاض «وطنية» الشعب الروسي؛ بذريعة تحديه لأميركا! كما لا يستطيع مجاراة العرب في هذه المرحلة إن لم يتول الحل بنفسه لكي لا يحصل معه ما حصل في شأن ليبيا! وقد أدرك الأمير سعود الفيصل ذلك، ولذا فقد مضى قدما في المطالبة بتسليح المعارضة السورية.
النظام السوري ماض باتجاه دحر الثورة، وإبادة الثوار، متظاهرين ومسلحين ومدنا وبلدات وحواضر وأريافا، وهو يعتقد بإمكان إنجاز ذلك تحت مظلة الاستقطاب الروسي – الأميركي، والرهان الإيراني، واستمرار العرب في البحث عن حل سلمي وتخفيف للعنف! ولذا لا بد من السير في الدعم العسكري واللوجيستي بمختلف أشكاله للثوار والناس بالداخل السوري، أما ما عدا ذلك فقد صار عبثا وباطل الأباطيل!
الشرق الأوسط