الثورة السورية وإماطة اللثام عن الفكر القومي
عمر كوش
أماطت الثورة السورية اللثامَ عن دعاة الفكر القومي بشكل خاص، والفكر اليساري بشكل عام، وكسفت تهافت مقولاتهم عن الأمة والشعب والمواطنة وسواها، إذ لم يتردد أغلبهم من الوقوف ضد الثورة الشعبية، التي انطلقت في الخامس عشر من آذار / مارس 2011، وأعلنوا وقوفهم إلى جانب النظام الاستبدادي، الذي شنّ حرباً شاملة ضد الثورة وحاضنتها الاجتماعية منذ البدايات الاولى للثورة.
واختبرت الثورة السورية حملة الأفكار القومية واليسارية الطنانة، في خيارهم الديمقراطي، ومدى اقترابهم والتزامهم مصالح الناس وحقوقهم، وأعادت إفرازهم بطريقة لا لبس فيها. وتبيّن أن الأحزاب اليسارية والقومية، عاجزة عن إحداث قطيعة معرفية وسياسية مع ماضيها، القائم على الإقصاء والأحادية، وعلى التعبئة الايديولوجية ذات الاتجاه الوحيد، حيث لا زال قادتها وممثلوها أسرى نفس العقلية القديمة ونفس النهج القديم.
الأشاوس
والواقع أن القوميين الأشاوس الذين قاموا بانقلاب عسكري في الثامن آذار/ مارس عام 1963 في سوريا، أعلنوا عن اعتلاء فئات، عسكرية ومدنية من الطبقة الوسطى والدنيا الريفية، سدة الحكم، وإزاحة الفئات البرجوازية المدينية التقليدية، بعد أن تمكن حزبهم البعثي من قطف ثمار الحراك السياسي في سوريا، إبان فترة خمسينات القرن العشرين المنصرم.
وفي سبعينات القرن العشرين المنصرم، بنت النخبة العسكرية التي حكمت باسم البعث، نظاماً تسلطياً شمولياً، صادر وقمع جميع أشكال الحراك السياسي والمدني والاجتماعي المخالفة له، أو تلك التي لا تصب في مصلحة خدمة نظامه. وعمل الحزب على تدمير القوة السياسية للنخب المدينية الغنية، مقابل تنمية نخب ريفية جديدة، كما أسهم في بقاء النظام واستمراره، من خلال توسيع قاعدة السلطة اجتماعياً، حيث سعى إلى إدخال جموع كبيرة من الشغيلة والفلاحين في مؤسسات الحزب ومنظماته، لكنه اُستخدم في نفس الوقت كأداة لقتل السياسة في المجتمع، واكتفى قادته بالتمتع بامتيازاتهم السلطوية، فسكنوا أبنية فخمة ومقرات شبيهة بالقلاع، في مراكز المدن والبلدات وحواشيها، بعد أن لجأ النظام إلى تقديم غنائم مادية لمحازبيه وأزلامه، وخصوصاً في مجال خدمات الدولة والعلاوات وتسهيل الرشوة والعمولات، أو على الأقل غض الطرف عنها، فضلاً عن الامتيازات السياسية.
وأنتجت السياسة السلطوية، منذ ثمانينات القرن الماضي، نمطاً من الإذعان، مورس على مختلف التكوينات الاجتماعية. نهض على قوة من الضبط والمراقبة، الرمزية والمادية، طاولت حتى حزب البعث نفسه، فلم يعد حزب البعث فاعلاً أو مؤثراً في قرارات السلطة الحاكمة وتوجهاتها، بل أن القيادة القطرية للحزب، فقدت دورها القيادي، ولم تعد تقوم، بدءاً من التسعينات، بدور الهيئة أو المطبخ السياسي، الذي يصنع القرارات، بل مجرد مركز من مراكز السلطة.
وقد رفع البعث السوري رايات العروبة والقومية وفق رؤى وتوظيفات شعبوية، جعلتها أقرب إلى إيديولوجيا منها إلى هوية ثقافية ومواطنية وعيش مشترك، وبالتقابل والتضاد مع ما كانت تطرحه الأحزاب والحركات الشيوعية ومن لفّ في فلكها من شعارات وإيديولوجيات أممية وبروليتارية فجة. وراحت السلطة التي حكمت باسمه، تمارس الاجحاف والتفتيت والتخريب بحق مختلف تكوينات ومركبات المجتمع السوري، وبحق الوطنية السورية، نظراً لأن هذا الحزب فهم القومية العربية فهماً قسرياً، إلحاقياً، يعتمد اللغة كأساس جوهري لانتماء الجماعة القومية، تحولت وفقه الأمة إلى كائن أنثوي، حددها زكي الأرسوزي في مفهوم “الأمة الرحمانية”، الذي لم يكن الأرسوزي ذاته مدركاً لمعانيه ومركباته، نظراً إلى أن مؤسسي البعث “الأشاوس”، كانوا مشدودين إلى ميتافيزيقا اللغة، وكارهين للتاريخ، ولم يدركوا من معاني اللغة ومبانيها سوى ظاهرها، وراحوا يسحبون الرابط الأبوي بشكل خيالي ومصطنع حين يتعلق الأمر بالشخصنة، والرابط الأمومي حين يتعلق الأمر بالجماعة، التي باتت متخيلة في أذهانهم، وبعيدة عن التربة والواقع. وقد وصل تأثيرهم إلى شاعر مثل أدونيس، غير البعثي، الذي مازال يستحضر صورة المرأة الجارية، كي يصور عبودية الأمة العربية، بالرغم من أنه يستهجن أي حراك ثوري فيها لا يدخل في حساباته، وخاصة حراك السوريين، الذي عاداه وراح يتصرف بوصفه عدواً لناسه، وأحد رجالات النظام.
لم يؤقلم البعثيون بشكل خاص، والقوميون العرب بشكل عام، مفهوم القومية حسب التربة العربية وتعيناتها، بل لجأ المنظرون منهم إلى التحليق اللغوي الميتافيزيقي، الناكر والكاره للتاريخ، وللعيش المشترك والمصالح المشتركة، التي تجمع مختلف حساسيات وفعاليات المجتمع السوري. وزاوجت أطروحاتهم بين القومية وبين متصوّرهم الخاص للاشتراكية في عملية قسرية واختزالية لا حدود لها، حيث تحوّل كل من يدور في فلك هذا الزواج من شعارات طانة ونخب ديماغوجية إلى ما يشبه المقدس، المتعالي والميتافيزيقي، يستمد قداسته من قداسة الميتافيزيقا نفسها، استناداً إلى تهويمات اللغة وجملها “الثورية” الفارغة من أي محتوى حقيقي.
إيديولوجيا استبعادية
ولم تعنِ العروبة – المطروحة سلطوياً- في أحايين كثيرة، سوى إيديولوجيا استبعادية؛ وزّع ممثلوها تهم الخيانة والعمالة على كل مختلف بالرأي والتوجه، واستبعدوا كل ما هو غير عربي، سواء أكان كردياً أم آشورياً أم غير ذلك. ثم فعلت المقايسة الميتافيزيقية فعلها الإيديولوجي الإقصائي ليتم استبعاد جميع من هم في حكم “غير العروبيين” من العرب أنفسهم، والمحصلة لمثل هذه الممارسات، كانت عروبة معزولة منغلقة على نفسها، تبرر الاستبداد والقمع، وتقصي جميع المختلفين مع دعاتها بالرأي أو التفكير، فاقتصرت على ثلة من الشعبويين المعزولين عن الناس وعن المجال المجتمعي العربي، وبالتالي، ابتعدت العروبة عن وصفها دالة انتماء وحاضنة هوية، بعد أن تحولت إلى إيديولوجيا طاردة للمواطنة والإجماع والتعايش، لذلك بقيت مختلف تكوينات الشعب السوري تنتظر المناخ الديموقراطي الذي يصحح ما جرى من ممارسات، ويوصل إلى حلّ سليم لتشييد وطنية سورية جديدة، تتسع للجميع ضمن فضاء العيش المشترك واحترام الخصوصيات اللغوية والثقافية والدينية.
والأمر لا يقتصر على قوميي البعث والسلطة التي حكمت باسمه، بل يمتد ليشمل مختلف الأحزاب القومية واليسارية، ذلك أن الإشكالية لا تنحصر في مسمى الحزب أو والتيار في الحياة السياسية بشكل عام، بل في ماهية الشكل السياسي والتنظيمي الذي يتجاوب مع مقتضيات التغيير المطلوب في واقع الحال المتحقق. مع الاعتقاد بأن التغيير المطلوب، سورياً وعربيا، عليه القطع مع كافة الأشكال السابقة، بغية الخروج من حالات القمع والاستبداد، ومعرفة الكيفية والمعنى والطريق التي تفضي إليه. خصوصاً وأن الحياة السياسية في سوريا لم تعرف غير أنماط انقلابية، أفضت إلى نظم تسلطية وشمولية.
الحزب التوتاليتاري
وقد بقيت الأحزاب القومية واليسارية مشدودة إلى مفهوم الحزب التوتوليتاري، العسكري الانضباط، في أغلب لحظاتها التاريخية الحديثة، ولم تخرج إلا في لحظات نادرة عن نطاقه الضيق، لذلك لم تتمكن من السير باتجاه تشكيل تيار وطني، لا اثني ولا طائفي، أي خلق تشكيلة اجتماعية واسعة، تنهض على فعل تواصلي قائم على الحوار الفكري بين أفراد أحرار.
ولم تعمل النخبة الحاكمة في الأحزاب والتنظيمات التي عرفتها سوريا، منذ خمسينات القرن العشرين المنصرم، وخصوصاً تلك التي وصلت إلى الحكم، إلا على إدامة الانتماءات ما قبل المدنية، وعلى تعميق التفاوت الطبقي والاجتماعي، وعلى تأبيد حاضر الركود والفوات، ولم تتمكن كذلك من صون وتقوية الوحدة الوطنية حتى في داخل سوريا، وابتعدت في ممارساتها السلطوية عن أقلمات المفهوم الحديث للمواطنة والانتماء للوطن، فحلت الانتماءات الطائفية والاثنية والجهوية والعشائرية، لتفعل فعلها مختلف الانتماءات ما قبل المدنية.
ونشأ مفهوم جديد للسلطة المستبدة داخل الأحزاب الحاكمة، هو مفهوم السلطة المتسلطة، على الأفراد وعلى المجتمع، مع تراجع مفهوم الحزب الممثل للمجتمع، مع أن أقلمة مفهوم السلطة أفضت في عالم اليوم إلى مفهوم السلطة المنظمة للمجتمع، ذلك أن دورها، في المفهوم الحديث، يتجسد في تنظيم القوى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ووضع هذه القوى في طريقة تناغمية قادرة على تحقيق الهدف الاجتماعي الوطني الأسمى، من خلال وضع نظم ومؤسسات قادرة على خلق تفاعل إيجابي سلمي بين هذه القوى عبر سلسلة من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ينهض هدفها على تحقيق الأهداف الاجتماعية عبر الوسائل التكافلية والاحتضان، وليس عبر الإقصاء والإبعاد والتخوين.
ولعل قوى الثورة السورية الديمقراطية، اليوم، مدعوة إلى العمل لإعادة السياسة إلى المجتمع السوري، بمعناها المدني الواسع، الذي حرمت منه على مدى أكثر من أربعة عقود، بما يعني أن القوى الديموقراطية السورية مدعوة أن لا تترك الساحة للقوى التي تستغل الدين أو الطائفة أو الاثنية أو العشيرة لتحقيق مآرب سياسية، وذلك من خلال العمل على تشكيل أحزاب وتيارات سياسية، إلى جانب تشكيل جمعيات مدنية، وتشكيل تحالفات سياسية، بغية وضع مقدمات بناء دولة لجميع مواطنيها، والاحتكام إلى السياسة، والوقوف بوجه التطرف الديني والنزعات والولاءات والعصبويات الطائفية والمذهبية ولاعشائرية والاثنية، والعمل على جعل الانتماء للوطن، والاختيار للبرامج السياسية، وترجمة مشاعر الوحدة إلى عقد وطني، يراعي التعدد ويقبل الآخر، وقادر على التعبير عن مصالح جميع أفراد المجتمع، والبحث عن مخارج هادئة لآثار وإرهاصات الاستبداد الأسدي.
ولن ينفعنا الاستغراق طويلاً في بحث الإطار النظري الحامل لثقافة الديموقراطية، إذ الممارسة هي سيدة الأحكام في هذا المجال. والمأمول هو أن تجسد التشكيلات السياسية الجديدة تقاليد ديمقراطية ووطنية، تنبذ اللجوء إلى العنف في الحياة السياسية والاجتماعية.
ربما، يكون الأمر نتيجة طبيعية، نظراً للاستبداد المقيم وحالة الاستثناء السائدة في الاربعة عقوة الماضية، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن الأحزاب والتنظيمات التي عرفتها الحياة الحزبية السورية لم تعمل على إرساء تقاليد ديموقراطية، بل على إثارة مختلف العصبويات الفئوية والمذهبية والإثنية، وعلى تعميق التفاوت الاجتماعي والطبقي، وعلى تأبيد حاضر الركود والفوات.
ولا شك في أن أهداف الثورة في محصلتها تتمحور على بناء دولة ديمقراطية تعددية، يكون فيها الفرد حراً وكريماً، وينظم حياتها وسلطاتها دستور مدنيّ، ينهض على التداول السلمي السلطة والفصل بين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، ويخضعها للرقابة والمحاسبة، ويحدد دور الجيش وقوى الأمن في حماية الوطن، ويجعلها أيضاً خاضعة للمحاسبة.
المستقبل