الثورة السورية والجسد
علا شيب الدين
يصل بنا الأمر إلى أننا لا نعرف ما يستطيعه الجسد؛ إننا نتكلم عن الوعي، عن الروح، نثرثر حول ذلك كله، غير أننا لا نعرف علامَ يقدر الجسد، أي قوى هي قواه وماذا تهيئ؟ (سبينوزا)
كان إقدام الشاب محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده احتجاجاً على واقع ظالم ومشوَّه؛ مفارقة شكَّلت منعطفاً تاريخيّاً أسّه احتراق جسد. فاحتراق الجسد كان الممر الذي تسلّلت عبره روح البوعزيزي لتحلّ في أجساد أخرى؛ بعدما تواترت هذه الروح التي أطلقت عنان التمرّد لنفسها من شخصٍ فرد إلى أمّة؛ ومن بلد عربي (تونس) إلى بلدان عربية أخرى، معلنةً رفض واقع الاستبداد والاستعباد، مكلّلة بحلمٍ طالما طال انتظار تحقّقه. إنه الحلم بـ”مدينة الديموقراطيّة”. ولا غرو، ما دام الجسد المشتعل كان أسّ “الربيع العربيّ”؛ أن يكون تعنيف الجسد والتعذيب حتى الموت، شرارة أجّجت الثورة في مصر، فوفاة الشاب خالد سعيد، تحت التعذيب على أيدي رجال الأمن، أثارت سخطاً عارماً، دفع الشباب للخروج إلى الشوارع محتجّين. ولا غرو، أن يكون الجسد الطريّ الذي ذاق مرارات الألم والعذاب، مفجِّر الثورة السورية أيضاً، والمقصود هنا مجموعة الأطفال في درعا جنوب البلاد، الذين كتبوا على جدران مدرستهم معاني التحرّر من السلطة، فاعتُقِلوا وعُذِّبوا، وكانوا بذلك الشرارة الأهم لإشعال فتيل الثورة. وإذ نتفكَّر مليّاً في الثورة السورية، نجدنا مرغَمين على مشاركة سبينوزا في سؤاله حول مقدرات الجسد، وقواه، وما يُتوقع منه، وما قد ينجم عنه، بالاستهجان نفسه! ما دام الجسد قد حضر في الثورة السورية حضوراً صاخباً قلّ نظيره في التاريخ. إذ الثورة مخضَّبة بالدماء والأشلاء، وقد انتُهك فيها الجسد الإنساني على نحو يرهق الضمير الإنساني الحي ويعذِّبه.
لكن بالرغم من رعب المأساة وهولها، فقد عمّدت حضور الجسد في الثورة السورية، صورة أخرى للجسد، بدت كأنها تتحدَّى صورته السابقة، وقد حضرت في الثورة بقوة موازية لصورة الجسد المعذّب، المعنّف، المقتحَم، المقتول، والممثَّل به. تجلّت الصورة الأخرى للجسد في الرقص والديناميّة، دفعت المرء إلى الشعور بأنه أمام تراجيديا، جزء منها مأسويّ، يفنى في نهايته الجسد الثائر، لكنه يعود إلى الحياة من جديد في جزء آخر يمثِّل نوعاً من تحدٍّ صارخ لفنائه. ما يعني أن الثورة هي ثورة جسد على جسد، مثلما هي ثورة عقل على عقل. فلما كان صحيحاً أن العقل الثوري الجديد أسّه الحرية، ويتمرّد على عقل قديم، أمنيّ/سلطويّ؛ فالصحيح أيضاً أن الجسد الجديد الثائر جسد حر راقص، وتلقائيّته غير مألوفة في التعبير، ويتمرّد على جسد نقيض يأتمر بالغرائز العدوانية المحضة، وهذا الأخير موسوم بالعقم، ويمثله ذكور السلطة من “الشبّيحة”، وأجهزة الأمن وقوات الجيش الموالية للسلطة التي احتكمت في قمعها الثورة إلى الغرائز المنفلتة من كل عقال.
كانت لغة الجسد الثائر، الحر، الراقص هي الأجدر، على ما يبدو، في مقارعة اللغة التقليديّة، أي، لغة العقل المحمَّل منطق “الواحد”، منطق الاختزال الذي يختصر الحياة، والكثرة، والتنوّع. إنه منطق تثبيت العقل واعتقال النهوض الفكري الذي مارس سلطته على الجسد باعتباره خصوبة ونبضاً وتعدّداً؛ فلغة الجسد في الثورة، حرّرت الفرد من المفهوم المحنَّط، ومن العقل السلطوي الذي لا ينتج إلا نفسه، حتى أنه بلي من فرط الاستعمال والتكرار. فالديكتاتوريات كلّها تُشتَقّ من واحد أوليّ يتجلّى هو نفسه في واحد ثانٍ وثالث ورابع؛ وفي نهاية المطاف يكون الواحد الأوليّ هو السائد فحسب. لكن الجسد الثائر يبدو كأنه انقلب على هذه القاعدة، فتجسّد بعدما كان مغيَّباً، وعتق نفسه من المفهوم المطلق، ومن الواحد، واتصل مباشرة بالواقع، أي بمكانه الطبيعيّ، الماديّ، الحسيّ، الحركيّ، النابض بالتفاصيل وبالأحداث والمتغيِّرات.
مشهد التظاهرات السلميّة المدنية في المدن والبلدات السورية المختلفة، التظاهرات العامرة بصفوف بشرية منظَّمة يحييها قرع الطبول والأغاني والتصفيق والرقص والدَّبكات الشعبية، كان النموذج الأهم الذي دلّل على ولادة جسد جديد في وضعيّة غير معتادة، يمكن المرء أن يقرأ من خلالها ولادة مفاهيم وقيم وسلوكيَّات جديدة. فالتكاتف والترافق والتشابك بالأيدي وغيرها من الوضعيات التي اتخذ منها ثوار الحرية والكرامة في سوريا وضعيّة لأجسادهم المتعاضدة، بدت كأنها تمرّد على وضعيّة قديمة قُسِر عليها الجسد خلال عقود من سواد الاستبداد بثقافته العسكرية المجنِّدة للمجتمع. وبوضعيته الثورية الرشيقة والأنيقة أفصح الجسد عن معاني التعاون والتآزر؛ كما أفصح عن عمق الشعور بوحدة المصير الإنسانيّ.
إن هذه الوضعيّة الجديدة للجسد تعاكِس وضعيّة الجسد الذي تَعسْكَر طوال عقود، وتُناقِضها. فقد كان الجسد مقموعاً، تختفي حيويّته خلف وقارٍ متحجِّر اتّسم به عصر الاستبداد الذي حكم سوريا نحو نصف قرن من الزمن. وإن عقد مقارنة بسيطة بين وضعية الجسد الحر في مشهد الثوار المتكاتفين والمترافقين والمتشابكين بالأيدي، وقد تفتّحت أجسادهم للرقص منطلقةً متقافزة، في الشوارع والأحياء والساحات؛ وبين المشهد التقليديّ القديم لأجساد تلامذة المدارس المجنَّدة كأنها كتل صلبة تتحرّك وفق إيعازات لها طابع عسكريّ صارم وحاد. إن عقد مقارنة من هذا الطراز، يبيِّن الفرق بين الجسد الحر والجسد المستعبَد، بين التشكيلات الحرة المنفتحة على الحوار، وبين الاستجابات الآلية للإيعازات والشعارات. إذ يقف التلامذة المعسكَرون أرتالاً بعضهم خلف بعض في وضعيّة الترادف التي تحول دون تلاقي الوجوه والعيون، في إشارة رمزيّة تدلّ على انقطاع علاقات التواصل. فالتواصل بين الوجوه، والتقاء الأعين بالأعين، هو من سمات الحوار والتخاطب السليم بين البشر، إن أرادوا العيش في مجتمع يحكمه السلم واعتراف الجميع بالجميع على قاعدة المواطنة؛ غير أن قيم المواطنة هذه لم تكن لتروق للقائمين على نظام استبدادي مبنيّ على كره الآخر، وعلى الجهد الحثيث لقطع العلاقة بين الناس وسط تعاظم مدّ الرذائل في المجتمع السوريّ المحكوم بآحاد مشتقِّة من الواحد الأوليّ؛ بعدما استحال كل “واحد” طفيليّاً ينتضي عصا السلطة ويعظ الناس بنصِّها “المقدّس”.
حكمَ الجسدَ في سوريا تصوُّر إيديولوجيّ مثقل بمسلّمات الرأي الواحد، والموقف الواحد، والسلوك الواحد، والحزب الواحد. فقُتِلت الحياة السياسية، وأثّر التصوّر الإيديولوجيّ في التعامل المسلكيّ مع الجسد. بيد أن الثورة السورية نفضت “تعاليم” البعث الطوباويّة حول الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وفكّكت مزاعم الصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة، لتنفث الحياة والنبض في الجسد. ما دفع بالجسد لأن يحضر بكثافته الوجودية والسياسية والجمالية والثورية؛ وحلّ الجسد الحر محلّ الجسد الصنم. رافق تلقائيّة الجسد الحر، تفتّح الفردية المنسجمة والمتصالحة مع الجماعة، والمتّفقة مع غاياتها. إذ الجسد هنا ما عاد مادة صمّاء، إنما بات صانعاً المفاهيم من خلال جبروت مقدرته في توليد أحداث تاريخية كبرى. هكذا، ما عادت المفاهيم والشعارات والقيم تسقط على الناس من الغيب. وما كان لأركان سلطة متجذِّرة، وراسخة بكل صنوف القهر والعنف أن تُضَعْضَع، لو لم يكن الجسد المحتجّ حاضراً بالترافق مع الكلمة الثائرة في الشارع. وكيف لثورة أن تقوم، إن لم تكن في أصلها قدَماً تطأ الأرض بخطى واثقة مزلزِلة؟! إذ التجربة التي يخوضها الجسد هي الثورة الحقيقيّة التي من شأنها إسقاط ما لا يسقط بالتنظير. ومن الفعل والاختبار والتجربة، تنبع نظرية ثورية تحرّر العقل مما حمله من وباء وهباء. هكذا كشفت الثورة السورية عن عسف الفصل الذي حرص النظام على تكريسه بين الجزء والكل، بين الجسد والروح، بين الفكر والسلوك. أي بين العالم الحسي الفيزيقي والعالم الروحيّ العقليّ.
مع الجسد الذي أصبح حراً، يغدو للمقولة التي تتحدّث عن العقل السليم في الجسم السليم معنى، إذ الجسم السليم يعني هنا، الجسم الحر؛ كون حرية الجسد تلعب دوراً في تطهير ما في الذهن من لوثات مثل “المؤامرة” وغيرها.
* كاتبة سورية
النهار