الثورة السورية ومأزق الجيوستراتيجيا/ غازي دحمان
يعد تحويل الربيع الثوري في سورية إلى صراع جيوستراتيجي، من نجاحات نظام الأسد والقوى الموالية له، بالقدر الذي شكلت فيه ضربة للحركة الثورية، ولأحلام الشعب السوري في الانتقال إلى واقع سياسي واقتصادي يحقق طموح الشرائح الكبرى من الشباب، في مستقبل أفضل من الحرية والعدالة والنمو.
ساعدت على هذا التحول هشاشة بناء الدولة الوطنية، التي تبين أنها لم تكن سوى سلطة مركزية، تستأثر بها عائلة حاكمة، وتسندها عصبية طائفية، تقوم على منطق الحكم بالغلبة. وتساوق ذلك كله مع وجود فضاء جيوسياسي إقليمي مفتوح، وينطوي على تركيبة اجتماعية متشابكة ومعقدة، مما سهّل، تالياً، عملية ربط الأزمة الوطنية السورية بغيرها من الأزمات المقيمة في الإقليم، إلى درجة الدمج بينها، وخصوصاً بديناميتها التفجيرية، المتمثلة في الصراع بين البنى المجتمعية.
تزامنت هذه الوقائع مع عودة ملمح طابع الصراع الجيوستراتيجي للعلاقات الدولية، بعد اختفائها في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إذ تكشف أن قوى إقليمية ودولية، إيران وروسيا والصين، ما زالت في حاجة إلى استخدام هذا النمط الصراعي لاستكمال مجالات القوة لديها، أو، أقله، لتغيير معادلة القوى الراهنة، وتثبيت نفسها قوة تقريرية في النظام الدولي المعاصر.
استطاع النظام السوري التساوق مع تلك المعطيات، والاندراج ضمن مسارها، في ما يشبه الثورة المضادة، التي قادها ضد الثورة، واندرجت في سياقها تكوينات اجتماعية سورية تحت ذرائع متعددة، لم تلبث أن تحولت حرباً أهلية، أرادها النظام للخروج من أزمته، وعلى خلفيتها جرى ترحيل الحل السوري إلى مجال أكثر تعقيداً، لارتباطه بحصول تسويات مستحيلة، تتطلب إدراجها في الواقع الدولي، وتنطوي على إحداث تغييرات في بنيته وتركيبته وتوجهاته.
تكمن المشكلة في هذه الظاهرة في نمط استجابة الغرب لهذا التحدي، إذ ترفض القوى الغربية العودة إلى نمط الصراع الجيوستراتيجي، وتصر على التمسك بالشكل الصراعي الجديد، القائم على التنافس والتعاون الاقتصاديين، وفي إطار قوانين العولمة، المثبتة في منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين. غير أن تمسك تلك القوى بالشكل الصراعي الجديد، والذي يقوم على القوة الناعمة فقط، يغري ما تسمى القوة الصاعدة برفع سقف، ليس مطالبها من النظام الدولي الجديد، بل طبيعة سلوكها العدواني في بعض المناطق الرخوة، للحصول على أوضاع تفضيلية في بنية النظام الدولي، في وقت لم تكمل فيه شروط حصولها على تلك الأوضاع.
استفاد النظام السوري من هذه التوليفة كثيراً، فبعد أن عمل على ليِّ عنق الأحداث، وتوجيهها صوب تلك المسارات، استفاد من معطيات الواقع الإقليمي المعقدة، والتي تنطوي على نزوعٍ واضح صوب الصراع الأهلي، وكان من مفرزاتها إيجاد الحالة الفوضوية، والسيولة الإقليمية، نتيجة تدفق المقاتلين، الذي أدى إلى تعظيم التيارات الطائفية، التي تقسم البلاد والمنطقة بحدة، وعلى مساحة واسعة من الحدود والتخوم.
” استطاع نظام الأسد إيجاد سياقٍ لانخراط القوى الإقليمية والدولية الداعمة له في الحرب ضد الثورة السورية، وخصوصاً بعد ربط الحالة السورية ضمن سياق الخطر الإسلامي، الذي يشكل أحد الهواجس الأمنية لدى روسيا، والصين بدرجة أقل”
نتيجة ذلك، استطاع بشار الأسد استدعاء الميليشيات الشيعية من العراق ولبنان، لقمع الثورة المدنية السورية، بعدما استطاع تخليق بعد طائفي، على هامشها، استدعته تصرفاته تجاه السوريين، غير أن انخراط تلك القوى جاء على أرضيةٍ جيوسياسية، نظراً لترابط الفضاء الجيوسياسي المشرقي، وارتفاع سقف التوقعات بإعادة صياغة الواقع المشرقي، بناء على خلفيات طائفية بحتة. وبالمنطق نفسه، استطاع نظام الأسد إيجاد سياقٍ لانخراط القوى الإقليمية والدولية الداعمة له في الحرب ضد الثورة السورية، وخصوصاً بعد ربط الحالة السورية ضمن سياق الخطر الإسلامي، الذي يشكل أحد الهواجس الأمنية لدى روسيا، والصين بدرجة أقل، ورفض هاتين القوتين تغيير الأنظمة بالقوة، وهو أمر له حساسية خاصة في المدرك السياسي لدى دوائر صناعة القرار الروسية والصينية، لارتباط هذا الأمر بحسابات داخلية بحتة، أو بالنسبة إلى مصالحهما الخارجية، وكانت التجربة الليبية لا تزال طرية في ذاكرة تلك القوتين.
في إطار هذا التحول في معنى الحدث وطبيعته، أحلّ نظام الأسد لنفسه ارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب السوري، وأطلق مجازر طائفية غيرت شكل الحدث، وحوّلته نمطاً من الحروب الأهلية، نظراً لاستدعائها تصرفاتٍ مقابلة، وإن كانت أقل حدة وتأثيراً، كما دفع حلفاءه الدوليين إلى تعطيل كل المبادرات الهادفة إلى إيجاد مخرج سياسي منطقي للأزمة، عبر التمترس خلف منطق جيوستراتيجية الصراع، والدفاع عن المصالح والأمن. واستناداً إلى هذه الخلفية، ذهب مستشار المرشد خامنئي، القائد السابق للحرس الثوري الإيراني، الجنرال يحيى صفوي، إلى أن حدود بلاده تصل إلى ساحل لبنان الجنوبي.
لا شك في أن تحويل الحراك الثوري ضد الطغيان والفساد إلى صراع جيوستراتيجي يخرج الشعوب من دائرة الفعل، ويعتبرها مغفلة أو مغرراً بها، كما أنه يجعلها أدوات مؤامرة وحسب، في حين تنتقل النظم الطاغية من موقع المجرم والمدان إلى موقع الوطني، وتلك أهم مكاسب بشار الأسد في هذه العملية، إضافة إلى طموحه في إعفائه من الآثار القانونية لجرائمه المرتكبة، بذريعة مواجهته المؤامرة الكونية التي يدّعيها، غير أن الخطر الأكبر أن جيوستراتيجية الصراع سيكون لها نتائج من الصنف نفسه، هي العبث بالجغرافيا السياسية، لتتطابق مع الرؤى الجيوستراتيجية للقوى التي تقف وراءها.
العربي الجديد