صفحات الرأي

الثورة السوريّة ومسألة التحالفات


حازم صاغيّة *

لنتخيّل للحظة أنّ ليبراليّاً متزمّتاً رفض، إبّان الحرب العالميّة الثانية، تحالف الدول الغربيّة مع ستالين بحجّة أنّه حاكم توتاليتاريّ ومجرم. أو لنتخيّل، في المقابل، أنّ شيوعيّاً متزمّتاً رفض تحالف الاتّحاد السوفياتيّ مع روزفلت وتشرشل بحجّة أنّهما رمزان إمبرياليّان للنهب والهيمنة. هذان التقديران ليسا هرطوقيّين، بل يمكن ببساطة اشتقاقهما من مقدّمات نظريّة أصليّة كامنة في الليبراليّة وفي الشيوعيّة، كلّ بطريقتها. وهما لم يُعدما من يقول بهما وإن ظلّ هؤلاء أقليّة هزيلة في الطرفين. ذاك أنّ الأخذ بهاتين الحجّتين أو بأيّ منهما كان كفيلاً بالإفضاء إلى انتصار هتلريّ هو أسوأ بلا قياس من أيّ «خيانة» للمقدّمات النظريّة العظمى.

لحسن الحظّ أنّ الليبراليّ المتوسّط والشيوعيّ المتوسّط آثرا تأييد التحالف في مواجهة البربريّة النازيّة والابتعاد عن تلك المقدّمات النظريّة المانعة التحالف والعديمة المسؤوليّة. هكذا، اندحرت الفاشيّة الألمانيّة – الإيطاليّة – اليابانيّة وسُوّيت بالأرض. تحملنا الثورة السوريّة وما يؤخذ عليها من صداقات غير ناصعة على مراجعة تلك التجربة الكلاسيكيّة في التحالف. فهي تستند إلى التمييز بين مستويات الخطورة و «الشرّ»، لكنّها، إلى ذلك، تذهب أبعد إذ تميّز بين الأخلاقيّة المطلقة (أخلاقيّة المقدّمات النظريّة في هذه الحال) وبين أخلاقيّة السياسة المسؤولة.

وكان عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر، قبيل وفاته وفي ذروة نضجه الفكريّ، قد ترك لنا نصّاً عن «السياسة كدعوة» (أو كنداء، أو رسالة، أو تكريس vocation)، جادل فيه بأنّ السياسة فنّ خاصّ لا يتحمّل ممارسوه، إلّا نادراً، أن يكونوا صافي الصفاء الذي يُطالَبون به، ولا يتحمّلون أبداً أن يكونوا بسطاء.

وكانت مفارقة فيبر، هنا، هي الآتية: إنّ الرجل الذي تكون السياسة لديه بمثابة رسالة مُجبرٌ أن يفعل ما قد يكون ممنوعاً أخلاقيّاً. فهو قد يجيز الأكاذيب، بل الانتهاك في ظروف قصوى، لكنْ ما دام مسؤولاً عن النتائج العامّة للعمل، أو عن عدم القيام به، فإنّه يتحمّل بالنيابة عنّا أعباء العمل الشرير. فما يرسخ هو المسؤوليّة حيال النتائج، أي حيال تطابقها مع ما هو أخلاقيّ في آخر المطاف وخدمتها له. وهنا يكمن قلب الموقع الفيبريّ الذي يتضمّن أنّ مهنة رجل السياسة هي أن يكنّ التقدير للنتائج العامّة والبعيدة لما يفعل، وأن تقيم دائماً في حساباته.

بلغة أخرى، وضدّاً على الانتهازيّة التي قد تُشتقّ من فهم سطحيّ لمقولة «الغاية تبرّر الوسيلة»، فإنّ معرفة النتائج تبقى موضوعاً مركزيّاً في تقدير فيبر، مع أنّ هذا يتركنا أمام أمر إشكاليّ آخر: كيف نقدّر النتائج سلفاً وعلى أيّ ضوء؟

لقد جادل عالم الاجتماع الألمانيّ بأنّ هناك نزاعاً لا يقبل التسوية بين إملاءات السياسة والإملاءات الأخلاقيّة. لكنّه، كما يقول، على بيّنة من المفارقة الكامنة في أنّ رجل السياسة «ينبغي عليه…»، أي أنّه مُجبر أخلاقيّاً، بفعل التزامه دعوته، أن يشيع أرفع المطالب الأخلاقيّة. ثمّ يمضي فيبر فيستشهد موافقاً بمديح ماكيافيللي للمواطن الذي يفضّل عظمة المدينة وسلامتها على خلاصه الروحيّ: فما دام أنّ جوهر القيادة السياسيّة في الأزمنة الصعبة هو استعداد القائد لأن يعرّض نفسه للخطر من أجل الجماعة، فإنّ أحد أبطال ماكيافيللي الفلورنسيّين امتدح أولئك السكّان الذين اعتبروا «عظمة مدينتهم الأصليّة أعلى من خلاص روحهم». وفي غير موضع يميّز فيبر بين أخلاقيّة الإيمان الراسخ، أو القناعة الراسخة conviction، أي بالأصل الألمانيّ Gesinnungsethik، وبين أخلاقيّة المسؤوليّة Verantwortungsethik لدى السياسيّ. وهو تمييز في تسيير الشأن العامّ، بين أخلاقيّة النهائيّات وأخلاقيّة الراهن المسكون بالنهائيّ. فالذي يتبع الأولى لا يهتمّ فعليّاً بالسلطة السياسيّة ولا يتحمّل المسؤوليّة عن نتائج عمله. إنّه مهجوس بالألفيّات فحسب. أمّا الذين يتبعون الثانية فيجعلون أنفسهم مسؤولين عن نتائج أعمالهم ويُقرّون بأنّ ثمّة حدوداً تحدّ الوجود السياسيّ وتشرطه. ذاك أنّ اهتمامهم ليس بالنبوءات التي تصدر عنهم، ولا بالنبوءات التي قد يصدرون عنها، بل بالمسائل البراغماتيّة التي تطاول الخيار والأولويّة والحاجة إلى المصالحات والتسويات.

أمّا الجهد النظريّ المسؤول والمحترم في وضع مُشكَل كهذا فهو إبقاء الحسّ النقديّ متيقّظاً للحفاظ على تلك المواءمة بين أخلاقيّة الراهن وأخلاقيّة النهائيّات، أي لضمان إسكان النهائيّ في الراهن. وهنا يعمل النقد بلا كلل في مطاردة ما يتبدّى غير أخلاقيّ أو غارقاً في وحول الراهن على حساب النهائيّات. وبالعودة إلى الثورة السوريّة التي يُراد لها التعرّي من كلّ تحالف، بذريعة المقدّمات النظريّة (الدينيّة المعلمنة ظاهراً)، فإنّ بُعداً آخر يُضاف إلى ما تُلمح إليه فكرة فيبر وتجربة التحالف في الحرب العالميّة الثانية. ذاك أنّ الثورة الفلسطينيّة المنزّهة عن النقد كانت هي نفسها حليفة وطيدة لمن يؤخَذ على الثورة السوريّة التحالف معهم. ونعرف أيّ دور لعبته المساعدات الماليّة الخليجيّة لحركات المقاومة الفلسطينيّة منذ نشأتها أواسط الستينات. بل لتقدير هذا الدور وحجمه يكفي القول إنّ توقّف تلك المساعدات، بسبب تأييد المقاومة الفلسطينيّة غزو صدّام حسين الكويت، كان الضربة التي قضت عليها وحملتها على تغيير استراتيجيّتها والانعطاف سلماً. وبدورها فإنّ القوى «الناصعة البياض» في الثورة الفلسطينيّة (كالجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين مثلاً) كان لكلّ منها حصّته من تلك المساعدات، ومَن لم يكن يكتفي بتلك الحصّة كان يجد تعويضه في أموال صدّام حسين ومعمّر القذّافي! وقصارى القول إنّ الذين يرفضون تحكيم المعيار الفلسطينيّ في الثورة السوريّة، يعلنون أمراً بسيطاً هو أنّ النظام السوريّ ليس شرّاً بما يكفي لجعل إسقاطه أولويّة تستدعي إيجاد أحلاف واختراع أخلاقيّة سياسيّة. وهذا أمر خلافيّ عميق لا حلّ له معهم.

* كاتب ومعلّق لبنانيّ

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى