صفحات سورية

الثورة الفكرية و حرية الاعتقاد


نظرات في النقاش حول الدين والإلحاد والمجتمع في ظل الثورات العربية

غيد الهاشمي

 قرأت هذا التساؤل منذ فترة على صفحة “شبكة الملحدين واللادينيين السوريين لدعم الثورة السورية”:

 سيسقط الأسد ستتحرر سورية لاشك لدي في ذلك ولكن هل سنتحرر نحن؟ هل سأستطيع أن أجهر في سورية بأني ملحد؟ لا، سنبقى مقموعين و سنبقى منافقين.

على نفس الصفحة يعلّق منحبّكجي:

أنتم ملحدون متنورون كيف تدعمون الثورة التي يقوم بها الرعاع الذين يخرجون من الجوامع ولا يخرجون من الجامعات إلا قليلاً؟ لو نجحت هذه الثورة فستكون نهايتكم في سورية هؤلاء المتدينون الرعاع لن يجزوكم  على تأييدكم لهم إلا بالمشانق. أنتم في نظرهم كفار ومرتدون. بينما هذا النظام العلماني الذي تريدون إسقاطه لا يعاقب على الإلحاد إلا بشيء بسيط و للملحدين فيه هامش من الحرية سينتهي تماماَ لو نجح الثوار في إسقاطه.

رد الأدمن: و كان

احفظ لسانك لا تقل عن طلاب الحرية و الكرامة أنهم رعاع. أما أنهم يخرجون من المساجد فهل ترك لهم نظامك مكان آخر يجتمعون فيه؟ و تقول عن النظام علماني؟ العلمانية تعني سيادة العقل و حرية الإنسان في الدنيا و ليس عند نظامك سيادة لشيئ سوى مصالحه ومصلحة بقائه و لو على حساب مصلحة الشعب كله. أغلبية الثوار يريدون بناء دولة مدنية لكل السوريين بصرف النظر عن عقائدهم.

تحتدم المناقشات بين الملحدين و المؤمنين (بعضهم نصارى و أغلبهم مسلمون)  على هذه الصفحة والصفحات المشابهة مثل: اتحاد الملحدين السوريين وملحدون سوريون و من أجل فكر مستنير و حرر عقلك وفكر و فيسبوك العلمانية  و الحوار المتمدن و صفحات أصدقاء لي متنورين مؤمنين و ملحدين   و يتميز النقاش بالسخرية اللاذعة و التحدي إلى حد إعلان العداء و الاحتقار و التخوين و الاتهامات الجاهزة الجائرة و التعميم والأحكام المسبقة من كل طرف ضد الطرف الآخر ناهيك عن الشتائم المتبادلة وعن التناقض المؤسف عند كل من الفريقين مع مبادئه التي يعلن عنها أثناء النقاش ذاته!!

هذا لا ينفي حضورأصوات عاقلة تدعو الطرفين وبالأخص أصحابها إلى التروّي والإنصاف، لكن اللافت أن النقاش الساخن يقف و ينتهي تماماً عند تدخل تلك الأصوات أو أنه يستمر في حدته السابقة    و توتره متجاهلاً محاولات التهدئة!

إلى جوار القواسم المشتركة المذكورة بين الفريقين في طرق النقاش و مضامينه لاحظت بعض الفروق بينهما:

ـ المؤمنون يشعرون بالتهديد من قبل الملحدين على صفحات التنوير التي لا تجهر بالإلحاد، يشعرون بالخوف من أن الملحدين يدسون سم الإلحاد في عسل التنوير والعلمانية  و يخشون من أن المجاهرة بالإلحاد ستدفع إلى انتشار الانحلال الخلقي والمثلية الجنسية و أن الإلحاد هو قرين الإباحية. هم يحمدون الله على نعمة الهداية ويتهمون المجاهرين بالإلحاد بأنهم أعداء الإسلام و يحاربون الدين.

 ـ الملحدون يشعرون بالقمع و أنهم مرفوضون من مجتمعهم ذي الحس الديني: إن أخفوا الإلحاد كاملاً أنكروا ذواتهم و نافقوا ، إن أخفوه نوعاً ارتاب الناس و شككوا بهم إن جهروا به ناصبوهم العداء بل    و ربما صارت حياتهم ككفار أو مرتدين في خطر. ربما لذلك أشعر في تعليقاتهم و حواراتهم مرارة وغصّة لا أجدها بنفس الوضوح عند المؤمنين . بعضهم يصرّحون بأن لم ينفّرهم من الدين سوى سفاهة أهله و تطرفهم أو غبائهم. و يرون أن المؤمنين لم يتوصلوا إلى الدرجة من التطور والتقدم الفكري التي وصلوا هم إليها و أن التنور الفكري مزيتهم  وحدهم.

جدية الحوار أو النقاش الفكري و الديني غير ممكنة في هذه الأجواء: أجواء الإحساس بالقمع و المرارة و التهديد و الخوف. وهذا كله بدون تدخل أنظمة الاستبداد السياسي، هذه مناقشات على الفيسبوك و النت أو في أوربا.

هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والتشنج و خوف كل طرف من الآخر لا تجدها في نقاشات المؤمنين المسيحيين واليهود الأوربيين مع أبناء بلادهم من الملحدين . هنا تضمن حرية الاعتقاد للجميع وهنا يفترض أن العقل هو الحكم الفيصل. يعرف المؤمن أن العقل و العلم لا يثبتان وجود الله بالدليل القاطع مهما كثرت وقويت الإشارات عندهما إلى وجوده. و يعرف الملحد أن العقل والعلم لا ينكران وجود الله بالدليل القاطع مهما كثرت و قويت الإشارات لديهما إلى التشكيك بوجوده. كل منهما اختار طريقه بإرادته و ليس هناك قانون يمنعه من مراجعة اختياره و تغييره متى رأى ذلك..

و السؤال الذي يطرح نفسه على الأكثرية العربية المؤمنة  و أنا منها: هل يعترف المجتمع العربي ذو الحس الديني السائد سواء فيه المسلم أو المسيحي هل يعترف في تقاليده المتبعة اليوم بحرية الاعتقاد؟    هل يسمح بالجهر بالإلحاد ويتسامح مع من يقول أنه لا يدري إذا كان الله موجوداً؟ وما دام التسامح غير موجود فماذا يفعل الملحدون واللا أدريون العرب هل عليهم إنكار قناعتهم و شكوكهم و إغلاق أقلامهم  و أفواههم و كيبورداتهم؟ و إذا كان الجواب بنعم فهل الحرية الدينية تعني فقط حرية ممارسة الشعائر على دين الآباء أو دين الأكثرية؟ ثم أليس تعريف المرتد في الشريعة الإسلامية هو من ارتد عن الإسلام بعد أن اختاره طواعية؟ هل يختار أولاد المسلمين دينهم طواعية حين يبلغوا سن الرشد؟ هل لديهم مجال للاختيار؟ هل نعترف لهم بحرية الاختيار؟ وإذا كانوا يعتبرون مسلمين بشكل بديهي ولا يقبل منهم شيئ آخر فكيف يمكن أن يقال عنهم يوماً أنهم مرتدون ما دام انهم لم يعطوا فرصة الاختيار أصلاً؟ كل مولود يولد على الفطرة و هي الإسلام فإذا كبر و لم يختر الإسلام دينا كوالديه اعتبر مرتداً و يجيز البعض قتله إن جهر باختياره المخالف للإسلام! أين هذا من مبدأ القرآن “لا إكراه في الدين” و من مبدأ “فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر”؟

هذان المبدآن يعتمدان على تصور ثقة الإسلام بنفسه أنه دين الحق و أن حرية الاعتقاد المتاحة للجميع هي في صالحه و أن الناس سيدخلون في دين الله لو كان لهم الخيار الكامل حين يرون في واقع حياة المسلمين أنه دين العقل والأخلاق وحرية الإنسان. في هذا التصور لا مكان لعقوبة الردة، حتى تاريخياً  وجهت تهمة الردة للانقلابات المسلحة التي  نظمتها بعض القبائل ضد الدولة الإسلامية الفتية آنذاك.

هل من الممكن أن نقترب من مستوى الحريات والديمقراطية في الدول المتقدمة و التي تطمح لها ثورات ما سمي بالربيع العربي مع بقاء انتشارالأنماط المتخلفة في التفكير والتدين التي تعارض حرية الاعتقاد؟ هل وكيف من الممكن فصل حرية الفكر والتعبير عن حرية الاعتقاد؟

 الحرية و الكرامة شعاران ردذدهما المتظاهرون من البحرين إلى المغرب فهل نتصور الحرية المنشودة بمعزل عن حرية الاعتقاد؟ هل تعتبر كرامة مواطن مصونة إن اضطر لإخفاء قناعته الفكرية تجنّباً للعواقب الوخيمة التي يتوقعها من محيطه المجتمعي؟

حين تكون حرية الاعتقاد والمساواة في المواطنة في دولة مدنية مكفولة للجميع فلا يهم من ينتمي للأغلبية أوللأقلية الدينية. أما حين تكون أغلبية الشعب مسلمة أو مسيحية متسامحة مع أتباع الديانات السماوية الأخرى فقط  و تدين من خالف هذه الأديان كزنادقة أو مرتدين و كفرة يستحقون العقوبة فمن المهم هنا توضيح تأثير دكتاتورية الأكثرية على أوضاع و مواقف المخالفين لها. لا يصبح الملحد عدواً للدين لمجرد شكه في وجود الله أو توصله إلى قناعة أنه غير موجود.  لكنه قد يصبح عدواً للدين حينما يرى أن المؤمنين به يلزمون الفرد باتباع دين الجماعة دون اعتبار لقناعة الفرد و حينما لا يرى أمامه سوى أحد طريقين أحدهما أمرّ من الآخر إما النفاق من أجل سلامته وسمعة عائلته و إما الصراحة التي إن لم تهدد حياته فقد تجعله غريباً في بلده أو غريباً عنه.

افتراض العداء للدين عند الملحدين يصبح نبوءة تحقق ذاتها.

القرآن يحاور من يشك و من ينكر مصدره الإلهي بالمنطق و لكن كيف يجري هذا الحواراليوم في بلادنا؟ إنه غير ممكن لأن الطرف الآخر من الحوار لا يسمح له بالتعبير الحر عن موقفه وهو مدان مسبقاً!  إجراء الحوار القرآني مع ذوي الشكوك و الملحدين ممنوع  باسم القرآن!! من الذي يجعل الدين هنا مهزلةّ أهله أم مخالفوه؟

أليس هذا دليل ضعف ثقة المجتمع المتدين بنفسه وبربّه وبدينه؟

و كأني بمجتمعاتنا العربية تحس في اللاوعي بعجزها عن تقديم الإجابات المقنعة لأسئلة شبابها الأذكياء و بفشلها في منعهم أن يخترقوا بنظرهم الثاقب أقنعة الرياء البراقة و حججها الواهية و بهزيمتها المسبقة لو حاولت خوض حوارات حرة منفتحة معهم. لذلك تعتمد حل التجاهل للتحديات التي لا تستطيع خوضها ومنع الأفكار التي لا ترتقي لفهمها  فإن فرض عليها أحد تلك الأفكار والتحديات لا يبقى أمامها سوى تحجيم ما تعتبره خطراً على هيبتها ومشروعية مفاهيمها عن طريق التهديد و الوعيد والإدانة والعقوبة.  حرية الاعتقاد في رأيي كوضع المرأة في مجتمعاتنا مسألة مصير يحدد تعاملنا معها أن نغيّر أو لا نغيّر أن نكون أو لا نكون، أن نخرج من الحلقة المفرغة أم لا: فالفقر والجهل يغذيان عقد النقص وعقلية التزمت و قمع الحريات وهذه تقمع العقول التي بإمكانها أن تبدع الحلول للقضاء على الفقر والجهل.. وندور في الحلقة.. إلى متى؟

كان لنا تاريخ مجد صنعت فيه الأسئلة الجريئة النابعة من فكر تحرر من كل القيود أعظم علماء و نابغي الإنسانية ممن تحدوا المستحيل فلم يوقف مدّ عطائهم إلا بعض من قرروا باسم الله أن السيف أصدق من العقل و أهم من العلم.. حينما أراد الذين لا يعقلون أن يحكموا بكتاب الله إلى قوم يعقلون…

ليست الأنظمة السياسية القمعية و فشلها الاقتصادي وحدها المسؤولة عن هجرة الأدمغة العربية العطشى إلى الحرية إلى دول الحرية والتقدم لتساهم في زيادة تقدّمها تاركة وراءها وطناً لا يختلف النظام السياسي  و الاقتصادي فيه عن الثقافي و المجتمعي  فساداً واستبداداً ونفاقاً

نعيب نظامنا والعيب فينا                                                       و ما لنظامنا عيب سوانا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى