صفحات المستقبل

الثورة اللاطائفية ما تزال حية في سورية

 

عمر حسينو

في بلدة أعزاز في شمال سورية، يُطلّ الناظر إلى المنازل المدمّرة والمقابر الجماعية وآثار الدبّابات والقذائف الفارغة، على الواقع اليومي لملايين السوريين. وعند معبر باب السلامة المجاور على الحدود مع تركيا، يروي الأولاد كيف هربوا من منازلهم بعدما تعرّضوا للقصف من قوات النظام وهاجمتهم ميليشيات الشبيحة الموالية للحكومة. يسأل رجل ‘لماذا أرسل بشار أبناء ملّته لقتل شعبنا البريء؟’ مصوِّراً النزاع بأنه حرب بين الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس الأسد، والأكثرية السنية في سورية. ويثني رجل آخر على ‘المسلمين الحقيقيين والصالحين’ في ‘جبهة النصرة’، المصنفة من قبل الولايات المتحدة كـ’مجموعة إرهابية’ مرتبطة بتنظيم ‘القاعدة’، والمتهمة بالتحريض على الطائفية، ودعمها للحكم الإسلامي الأصولي.

تشير هذه المشاهد التي رأيتها في رحلتي الأخيرة إلى شمال سورية الذي تمزّقه الحرب، إلى النمو المقلق للمجموعات الجهادية والسلفية، لكنها ليست القوى الوحيدة التي تظهر في سورية الجديدة. فالروح المدنية والوطنية التي أطلقت شرارة الثورة السورية في البداية لا تزال متّقدة وبحالة جيّدة. هناك عدد كبير من القادة الدينيين ومن الناشطين على مستوى القاعدة الشعبية الذين يعملون على بناء بلد يرتكز إلى المبادئ المدنية ، في مواجهة الثأر المذهبي، ويؤمّن لجميع مواطنيه المساواة في الحقوق. حتى بعض المحاكم الشرعية الإسلامية التي نشأت لإقامة العدل في المناطق التي هجرها النظام السوري، تنطوي على اتّجاهات غير طائفية مفاجئة. تنطوي – بشكل مفاجئ – على اتّجاهات غير طائفية.

ليس واضحاً بعد إذا كان بإمكان هذه الحركة أن تصمد مع تواصل الانتفاضة. إلا أن هؤلاء الأشخاص يجسّدون في الوقت الحالي بارقة الأمل بأن سورية قد تنجح في تفادي حرب طائفية شاملة.

الحركات الشعبية

من الحركات الاحتجاجية غير العنفية الأشهر على الأرض ‘تجمّع نبض للشباب المدني السوري’، الذي يُحدّد لنفسه الهدف الآتي ‘محاربة النظام ومكافحة الطائفية.’ يقود التجمّع ‘أبو رامي’، وهو علوي من حمص انضم إلى الثورة منذ بداياتها. تشكّل هذه الحركة الشبابية الصغيرة نسبياً أداة لتمكين الأقليات، ولا سيما العلويين الذين يعارض الجزء الأكبر منهم الثورة.

يقوم ناشطو ‘تجمّع نبض’ الذين يتمركزون في معاقل مدنية على غرار يبرود وسلَمية والزبداني وحمص، بمبادرات صغيرة النطاق إنما فريدة من نوعها. ففي عيد الميلاد، ارتدى ناشطو التجمّع ملابس سانتا كلوز ووزّعوا هدايا على المسيحيين، والمسلمين في حمص والنازحين من الزبداني. وفي الاحتجاجات التي تعمّ مختلف أنحاء البلاد، يرسل ‘تجمّع نبض’ ناشطين مدنيين وعلمانيين ومن الأقليات يرفعون لافتات كُتِب عليها ‘في سورية طائفتان: طائفة الحرية وطائفة الظالمين’، و’قبل الدعوة للثأر الطائفي، تذكّروا أنكم ارتعدتم عندما شاهدتم المجزرة’.

قال لي أبو رامي ‘قسم صغير من اللافتات والهتافات في أجزاء من سورية يصبح أكثر تشدّداً وطائفية، لذلك نريد أن نكون بمثابة القوة المضادّة، وأن يكون لحركتنا وجود على الأرض’. وأضاف ‘لكن العمل الأصعب سيأتي بعد إطاحتنا للنظام، حيث سنحاول الحؤول دون تفكّك البلاد’.

وبعيداً من التنظيمات على غرار ‘تجمّع نبض’، يعمل ناشطون أفراد أيضاً بصورة مستقلّة لمساعدة الانتفاضة والمساهمة في مدّ جسور بين الثوّار الذين يتألّفون في معظمهم من السنّة والأقليات في البلاد. قال لي: اخبرني نحو ستّة ناشطين علويين وإسماعيليين طلبوا عدم ذكر أسمائهم، إنهم يعملون بانتظام مع ‘الجيش السوري الحر’ لتمرير المساعدات الإنسانية والعسكرية خلسةً عبر حواجز التفتيش التابعة للنظام. ويصطحبون معهم نساء غير محجّبات يتحدّثن باللهجة العلوية، بما يتيح لهم تفادي إثارة الشبهات لدى عناصر النظام.

لا يتردّد ناشطون آخرون في المجاهرة بصوت عالٍ بمساهمتهم في الجهود المناهِضة للأسد، ومنهم لبنى مرعي، شابّة علوية من مدينة جبلة التقيتها أيضاً خلال رحلتي، فهي تتنقّل ذهاباً وإياباً من سورية وإليها بصورة علنية مع كتائب ‘الجيش السوري الحر’ لتأمين القمح للسكّان المدنيين في المناطق التي تمزّقها الحرب.

القادة الدينيون

ليس الشباب المدنيون والأقليات سوى جزء صغير من الحركة الثورية اللاطائفية، فالشخصيات الدينية تؤدّي أيضاً دوراً بارزاً. انشقّ الشيخ أبو الهدى الحسيني، المدير السابق للأوقاف في حلب، عن النظام في آب/أغسطس 2011 وتوجّه إلى تركيا. وقد انضمّ إلى الشيخ محمد اليعقوبي، وهو داعية صوفي سابق في مسجد الحسن في دمشق شنّ هجوماً على النظام في عظته الشهيرة في ايار/مايو 2011، وشكّلا معاً ‘الكتلة الوطنية’ التي تسعى إلى ترويج جدول أعمال مناهض للتشدّد والاصطفاف المذهبي.

وقد دعا الحسيني، خلال مأدبة عشاء في مدينة إسكندرون التركية، إلى تفسير معتدل للإسلام. ولفت إلى أن القرآن يحرّم التعصّب الطائفي مشدّداً على الحاجة إلى إصدار عفو عام بعد سقوط النظام، إذ اعتبر أن المسامحة هي ركيزة أساسية من ركائز الإسلام. وعبّر الحسيني أيضاً عن رؤيته لدولة مدنية وحكومة تعدّدية بعد سقوط النظام السوري، مقترحاً اعتماد نظام المجلسَين التشريعيين الذي يمنح قادة جميع الجماعات الدينية أو الإثنية فرصة إسماع صوتهم في الحكومة. قال لي ‘يجب أن يتمكّن كل شخص من التعبير عن رأيه، مهما كانت المجموعة التي ينتمي إليها صغيرة، وهذا يشمل حتى الملحدين’.

تحاول ‘الكتلة الوطنية’ جمع مئة من أبرز القياديين الموالين للثورة في سورية – بما في ذلك زعماء القبائل والمفكّرون ورجال الدين والعلماء – من أجل نشر رسالة الوحدة الوطنية والمصالحة. الفكرة التي تقف خلف هذا المسعى هي أنه بإمكان هذه النخب أن تستخدم مكانتها في المجتمع السوري للنأي بالبلاد عن التشدّد والانتقام. تطالب الكتلة بالعودة إلى دستور 1950 واعتماده كنقطة انطلاق في مرحلة ما بعد الأسد.

يتطلّع الحسيني إلى المرحلة الانتقالية بعد الأسد لتوسيع دور الكتلة، معلِّقاً: ‘في هذه المرحلة حيث يحتدم القتال وتراق دماء كثيرة، يصعب التكلّم مع المقاتلين الذين يخوضون معارك ضارية ونقل رسالة إليهم’.

المحاكم الشرعية

قد تبدو المحاكم المرتجلة التي أنشئت لفرض الشريعة الإسلامية أداة أساسية لترويج الأفكار المتشدّدة – لكن بعض هذه المحاكم يفعل العكس في سورية. تشكّل محكمتان شرعيّتان – واحدة عند معبر باب السلامة الحدودي والثانية في محافظة إدلب في الشمال – دواء ناجعاً في مواجهة الثأر المذهبي الجماعي.

قال لي الشيخ أبو جمال، رئيس قسم الشريعة والقانون في مجلس إدلب ‘الانتماء إلى الطائفة العلوية ليس جريمة في الإسلام. يتحمّل القادة الدينيون مسؤولية مهمّة تقتضي منهم التصدّي لعدالة الاقتصاص الشخصي، وقد انتقدنا علناً الكثير من الشبّان الذين يأخذون الأمور على عاتقهم الشخصي. والأكثرية تصغي إلينا’. قال أبو جمال إن الهدف من المحاكم الشرعية هو الحرص على عدم معاقبة أحد من دون محاكمته. في محكمته، المتّهم بريء حتى تبثت إدانته، ويشهد ناشط حقوقي ورجل دين إسلامي على المحاكمة لتقديم النصح والاعتراض على المخالفات، ولكل متّهم الحق في تكليف محامٍ للدفاع عنه.

ومع ذلك، تعاني المحاكم الشرعية من المشاكل. فهي ليست كلّها متشابهة، والحماية التي يؤمّنها أبو جمال قد لا تكون موجودة في محاكم أخرى. ليست هناك آلية للاستئناف، والمنظومة منحازة نحو اختيار قضاة موالين للثورة سواء عن طريق التعيين أو الانتخاب. لكن في الوقت نفسه، فإن الدور الذي تؤدّيه هذه المحاكم في دعم الإجراءات القانونية وسيادة القانون يقف في المرصاد لمحاولات الاقتصاص الشخصي المذهبي الطابع في هذه المرحلة الانتقالية.

المجموعات القتالية

ترفض بعض المجموعات القتالية أيضاً التشدّد المتنامي لدى إخوانها المعارضين للأسد. في بلدة أعزاز الشمالية، التقيت النقيب بيوار مصطفى، قائد ‘لواء صلاح الدين’ الكردي الذي يحارب في شكل أساسي في حلب. قال لي ‘نؤمن بالديمقراطية، والمساواة في الحقوق للجميع، وحسن التمثيل. وهذا مناهِض تلقائياً للطائفية. الجيش السوري الحر هو لجميع السوريين، وليس لمجموعة واحدة، ويشكّل الأكراد قوّة اعتدال في هذا الإطار’.

يبدي مصطفى الذي انشق عن الجيش السوري، خشيته من تصاعد شعبية المجموعات المتطرّفة مثل ‘جبهة النصرة’. وهو لا يثق أيضاً بـ’حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني’ المتفرّع من ‘حزب العمال الكردستاني’ التركي، قائلاً بأن لقيادته آراء انفصالية متطرّفة وبأنها تتعاون مع نظام الأسد. وأضاف أنه قد تكون هناك حاجة إلى إقامة تحالفات مؤقّتة مع المتشدّدين في الوقت الراهن، إلا أن المقاتلين الأكراد مصمّمون على الوقوف في وجه التعصّب المذهبي عندما يسقط النظام.

وعلّق مصطفى ‘اليوم نشارك نحن الأكراد في القتال، حتى إننا نحارب إلى جانب النصرة في حلب، وغداً سوف ندافع عن السوريين كافة. أقسم بالله إنه إذا أراد بعض المتشدّدين قتل العلويين، سنحارب بأسلحتنا ونموت دفاعاً عن العلويين لأن جيشنا هو لجميع السوريين’.

يعبّر عناصر ‘لواء صلاح الدين’، وبينهم أيضاً عرب وتركمان، صراحةً عن تطلّعهم إلى قيام دولة علمانية تحترم التعدّدية والأقليات والحريات الدينية. وبما أنهم أكراد علمانيون في معظمهم، يعتبرون أنهم يشكّلون جسراً بين العرب السنّة والأقليات في سورية. على الرغم من الزخم الذي تتمتّع به الحركة اللاطائفية، تؤدّي الهمجية المتزايدة التي يمارسها النظام إلى ظهور مؤشّرات مقلقة عن اتّساع رقعة التشدّد في مختلف أنحاء سورية. فقلّة من الأشخاص الذين تحدّثت معهم أبدت استعداداً لانتقاد ‘جبهة النصرة’، فقد اعتبر معظمهم أن هذه المجموعة الجهادية المرتبطة بتنظيم ‘القاعدة’ تقدّم مساهمة ميدانية لم يستطع الغرب توفيرها. أكثر ما فاجأني هو أن عدداً كبيراً من الناشطين المدنيين والعلمانيين فضلاً عن أولئك المنتمين إلى الأقليات، دافع عن الجهاديين. لعل علي المير، وهو طبيب شيعي وناطق باسم تنسيقية مدينة سلمية التي تتألف غالبية سكّانها من الإسماعيليين، اختصر الأمر جيداً بقوله ‘اسمع، أنا شيعي، لكن هؤلاء السلفيين يساعدوننا. ‘أحرار الشام’ يقاتلون النظام ويؤمّنون المساعدات حتى للمناطق الشيعية، على الرغم من أننا لا نتّفق في الآراء في أمور كثيرة’.

وعلّقت امرأة علوية طلبت عدم ذكر اسمها، بلهجة أكثر تحدّياً ‘لا أفهم لماذا تصف الولايات المتحدة جبهة النصرة بالإرهابية، في حين أن بشار الأسد هو الإرهابي الوحيد في سورية’.

بدأت الثورة في سورية سلمياً، ولا تزال الروايات المفعمة بالأمل عن الوحدة الوطنية واضحة على الأرض. لكن مع تواصل النزاع، تتراجع القوى اللاطائفية شيئاً فشيئاً أمام المتشدّدين، إلا أنها لا تزال تشكّل الأمل الأخير والأفضل لتفادي حرب أهلية طائفية في سورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى