الثورة المضادة
علي كنعان
في غمار هذه الأيام الكابوسية أراني أغبط الأصدقاء القادرين على القراءة والكتابة معا، بلا غصص ولا مرارات. الجحيم بعينها أن ترى وتتلوى ولا تقوى على فعل أي شيء. تفتح الكتاب أو الحاسوب فترى الغيوم السوداء تغطي كل بياض.
تحاول أن تكتب شيئا، أن تخرج من جو الاختناق ولو بكلمة، فترى الحروف تنبجس بفيض من الدماء، وترى الأشلاء متناثرة في الشوارع والزوايا وحتى في الحافلات. وصور الشاشة المخزية، في كثير من القنوات، ليس فيها إلا ما يعتصر القلب ويزيد المرارة الخانقة حدة وفظاعة. ولولا هذا الضياء الجديد الذي انبثق من دماء الشهداء وأمواج المنادين بالحرية والكرامة، هذا الحلم الذي ما كان جيلنا قادرا على تخيله أو إيناس قبس من بشائره.. لولا ذلك لما بقي للحياة أي طعم أو جدوى أو رجاء.
إن غيوم الدخان التي كانت تغشى آفاق مدينة درعا لم تكن لتصيب العيون بما يشبه العمى وحسب، لكنها تعتصر القلوب الملهوفة وتبلبل الأفكار وتوشك أن تطمس نور البصيرة: ماذا يجري هناك فعلا؟! وماذا يجري في غيرها من البلدات والمدن؟ وهل الانتفاضة الشعبية العفوية البسيطة تستدعي كل هذا الحشد العسكري الجرار؟ وإذا افترضنا جدلا أن هناك خلايا تخريبية كانت نائمة، ثم استفاقت فجأة.. أو أنها قوى خارجية، أرضية أو فضائية، تسللت كالأشباح تحت جنح الظلام، فأين كانت كتائب المؤسسة الأمنية الساهرة على أمان البلاد وهدوء أرضها وراحة أبنائها وسلامتهم؟ هل كانوا مشغولين في مزارعهم ومصادر ثرواتهم المستورة؟ وهل بلغوا قاع الفساد الذي يتمرغون في مستنقعاته، ولا من منفذ غير الدم؟ شيء آخر يزيد التساؤل حدة ومرارة: لماذا كل هذه الموجة المتصاعدة من الاعتقالات التي شملت الآلاف ولم يسلم منها أي من الناشطين الحقوقيين، ولا حتى بعض الكتاب والصحافيين من المستقلين وصولا إلى بضعة حزبيين وموالين للنظام ذاته، ممن لم يستطيعوا السكوت؟
أمر محير ومريب ولا يمكن فهمه أو مقاربته إلا في إطار اندلاع ثورة مضادة مدروسة ومبيتة، بتصميم استباقي منذ أحداث تونس، وقد راحت تطبخ على نار هادئة في أقبية الأشباح ومكاتب بعض المسؤولين من داخل النظام ومن المتواطئين معه من الخارج، ثم اندفعت إلى الشارع بسلاح الأمن من جانب، وسلاح الشبيحة من جانب آخر وسلاح ‘ المندسين’ المقنعين من جانب ثالث، ولم تكن التظاهرة العفوية في درعا إلا فرصة لإعطاء شرارة الانطلاق. وبذلك يسدون الطريق على أي تغيير سلمي آمن سلس ومريح يوفر لشعبنا حريته وكرامته. أما الدماء البريئة التي سفكت من المدنيين والعسكريين معا.. فلا يمكن إدراك ما وراءهذه الجريمة الفظيعة إلا أن الغاية تبرر الوسيلة!
لكن الثورة المضادة تسير ضد حركة التاريخ، ولهذا تكون نهايتها وبيلة مثلما كان مخاضها دمويا عسيرا، وهي تقود البلاد إلى كارثة، وأي كارثة! وحين نتذكر الفترة الديمقراطية الرائعة بين 54 ـ 58 من القرن الماضي، ونستعرض تاريخ الانقلابات العسكرية، لا نرى أنها كانت لخدمة الشعب وبناء مستقبله المأمول في تحقيق المساواة والاعتراف بالمواطنة وترسيخ الحريات الديمقراطية، وإنجاز التقدم والازدهار على المستوى العلمي والاقتصادي والثقافي، إنما هي ثورات مضادة حولت البلاد إلى مزرعة خاصة ومقسمة إلى إقطاعيات ارتجالية أسوأ حالا من الإقطاعيات في أيام الامبراطورية العثمانية. وإذا كانت قضية فلسطين هي اللافتة الوردية الكبرى التي كانت ترفع على واجهة كل انقلاب، فقد أثبتت التجربة المرة أن ذلك لم يكن إلا للتعمية والخداع وتكريس العسف والنهب والاستلاب وكمّ الأفواه وتكديس الثروات المتدفقة من الداخل والخارج.
والمشكلة تبدأ من المدرسة: حين تكون نصف المناهج الدراسية موضوعات إنشائية، هدفها الأول والأساسي تمجيد الحزب الوحيد والزعيم الأوحد وتلميع صورتهما، فإن هذا يعني تصنيع أجيال من المدجنين والمعلبين، أجيال من الدمى والبيادق والأزلام والطبول الجوفاء. وحين كان النموذج الستاليني هو القدوة المثلى، فقد صار رؤساء مكاتب القيادة الحزبية في العاصمة، ومن ورائهم أمناء الفروع في المحافظات مجرد إمعات هزيلة وبطانة فاسدة مكرسة للنهب وتبرير القمع والاستبداد وتوسيع مساحة مستنقع الفساد.
ومن يتأمل التنظيم الهيكلي للأجيال الطالعة والنقابات يرى أن السلطة المهيمنة ألغت المجتمع المدني ومبادراته الفردية والجمعية الخلاقة لتبني على أنقاضه مجتمعا سياسيا شكلانيا من العسس والمأجورين، بدءا من شبيبة الثورة.. إلى اتحادات الطلبة في الجامعات.. وصولا إلى النقابات في مختلف مهنها واختصاصاتها. أما طلائع البعث، فهناك تتجلى الكارثة في أفظع صورها.
ولقد جاء التأميم وسيطرة الجهاز الحزبي والإداري والأمني على الهواء والماء ولقمة العيش والدواء.. لا ليجعل الحاكم الملهم ظل الله على الأرض، كما كان ملوك فرنسا، وإنما هو الحاكم المطلق وبيده مفاتيح النعيم والجحيم وكل وسائل الموت والحياة وأدوات العيش والثراء والقتل والتنكيل.
وبعد ما يقارب الشهرين من بدء الاحتجاجات وإراقة سيل من الدماء، ما تزال السياسة غائبة عن المشهد السوري، وما زال الحوار محظورا، كما أن حرية التعبير والاجتماع والتظاهر السلمي لم تزل من المحرمات.. وما يزال رصاص الأمن، فضلا عن رصاص الأشباح وعصابات الفوضى وقطاع الطرق، هو الصوت الوحيد المسيطر على ذلك المشهد السوريالي الدامي. أما قيادة الحزب والنظام البوليسي فلا ترى إلا صورتها ولا تسمع إلا صوتها.
الفصل الجديد في هذه الدراما الفاجعة أن أطراف المشهد بدأت تتكشف عن صفقات مريبة يقوم بها بعض أخوتنا العرب ليصبوا جهودهم غير المباركة في هذا البازار الدموي الرهيب، لا محبة بالشعب السوري وحرصا على سلامته، إنما لأمر في نفس يعقوب. ولا يمكن أن نبعد عن حيثيات هذا البازار ما أعلنه زعيم البيت الأبيض بأنه عازم على تحريك عملية السلام ورعايتها في المنطقة التي يسمونها ‘الشرق الأوسط’. والمخيف أن تكشف لنا ‘ ويكيليكس’ بعد شهور أن كل ما جرى وما يجري هي فصول في العملية الملحمية، ولا يبرأ من جرائرها وجرائمها إلا أولئك الشباب الأبرياء من عشاق الحرية والكرامة الذين اندفعوا في الشوارع بكل صدق وعفوية وإخلاص ودفعوا حياتهم ثمنا لذلك.
الطبقة التجارية في كل من حلب ودمشق ومعظم المدن الكبيرة لم تتحرك، وكذلك معظم طبقة الإكليروس الديني الذين يسمون أنفسهم للسخرية ‘ علماء’، وندع السلاحف الطائفية المقنعة بدروعها الصدفية جانبا.. حتى يحين موسم المراجعة والتحقيق والحساب. إن أغلى ما تكشفت عنه هذه الأحداث الدامية، طوال الشهرين الماضيين، يتجلى في إشراق الذاكرة ودقة الرصد والتسجيل بالصوت والصورة، بالكلمة والرقم. وحين تظل الذاكرة الشعبية بكل هذا الصفاء والوهج والمتابعة، رغم القسوة المشهدية الموجعة في سلسلة قوافل الشهداء والجرحى والمعتقلين.. حينئذ من حقنا أن نتفاءل ونستبشر خيرا، رغم كل الغيوم السوداء التي توصد الأفق وتعتصر القلوب.
القدس العربي