الثورة بوصفها فعلاً جسدياً/ حازم شيخو
أبحث عن الجسد في ثقافتنا وحياتنا، بالأحرى أبحث عن علامات تغييبه. إن تتبعنا الإنتاج الفني فليس صعباً أن نلحظ غلبة الجانب الروحي على الجسدي، بل حتى شبه غياب للجسد من الأشكال الفنية ومضامينها. وإن حاولنا على سبيل المثال تتبّع مسار الأغنية العربية الحديثة، سنكتشف أنها اقتصرت تقريباً على مفردات الحب والطهارة والقومية والرومانسية، وعلى رأس هذه المدرسة السيدة أم كلثوم؛ وعلى النقيض منها كانت أسمهان التي يمكن اعتبارها حالة فريدة جمعت بين الجسد والروح في أدائها وأغنياتها. ويبدو أن الاختلاف بين الفنانتين يمثل صراعاً بين مدرستين ونزعتين في المجتمع، لعلها انتهت بمقتل أسمهان المفاجىء.
وجاءت تجربة الرحابنة وفيروز، صاحبة صوت الحبيبة النقيّة والأم الرصينة، لتكرّس مفهوم الرومانسية على حساب الجسد. والفن الملتزم ساهم أيضاً في قتل ما تبقى من الجسد في الموسيقى العربية (يمكننا أن نستثني من ذلك الشيخ إمام)، فأغاني مارسيل خليفة، على سبيل المثال، في مرحلتيه الأولى والوسطى، تتغنّى بالحبيبة الطاهرة المخلصة والشهيد الذي لا حضور لجسده إلا في التضحية به في سبيل القضية.
أما الموسيقى الحالية فلا تعدو أن تكون جامعة بين رومانسية أثيرية سطحية ومادية مبتذلة نابعة من مفهوم الاستعراض والفيديو كليب.
أسباب كثيرة ساهمت في ذلك، ولكن الاستبداد عزّزه بكل تأكيد، إذ قام، إضافة إلى تجفيف المنابع الفكرية في المجتمع، باجتثاث الجسد من حالته الحسية الصحية. ما يحدث هو أنه في ظلّ الاستبداد يكون الجسد موجوداً فقط، ولا مساحة كافية له للحركة، بل هو مقيّد بمحاذير اجتماعية وسياسية ودينية واقتصادية، وهذا يدفع الفرد إلى التسامي على الوجود الواقعي، أو الإذعان لحالة السجن المفروضة.
في أحد جوانبها، كانت الثورات والانتفاضات التي عصفت بالمنطقة ثورات جسد. فالثورة فعل اعتراض جسدي، والشباب مارس هذا الفعل، ولم يعد يقتصر الأمر على كتابات أو قراءات منفردة، أو أحاديث معزولة، بل تحوّل التمرد إلى فعل يأخذ صورة التظاهر، وأصبح الجسد مواكباً للروح في تمرده ونشوته، وفي أحيان عديدة تجاوز مصاحبة الروح وتحوّل إلى فعل مادي، كما نلاحظ ذلك في حالات التمرد المسلح.
اكتشاف الجسد كان مفاجئاً للشباب، بعد كبت وغياب رهيب في ظلّ الاستبداد، فحتى السبعينات مثلاً كان ثمة حضور للجسد العاري في السينما العربية، لكنه تلاشى تدريجياً ليختفي تماماً. وحتى الرقص عانى الأمرّين في العقود الأخيرة، فمن جهة كانت الدبكات التي، رغم جماليتها، تصادر الفردية، لا سيما أنها تذيب الكيان الفردي في الجمعي، حتى يضمحل أي أثر للمحسوس المستقل. ومن جهة ثانية، ابتُذل الرقص الشرقي إلى أحطّ درجات المادية والاستهلاكية، حتى تجاوز مفهوم الإغواء الجمالي وسقط في درك القرف والضجيج. لقد صودر الرقص أيضاً فصودر معه الجسد.
طبعاً الأمر ليس سينما ورقص بل هو حالة اجتماعية. فغياب الجسد مثلاً جعل المرأة أمام خيارين: إما أميرة بريئة أو بائعة هوى ساقطة.
والآن مع موجة الثورات والانتفاضات يمكننا تبيّن صراع الجسد مع الرومانسية المبتذلة. فكما ذكرنا سابقاً، صادر الاستبداد الجسد وقدّم بدائل روحية مسكّنة عوضاً عنه، من رومانسية وحبّ عذري وأفكار قومية ودينية مفصّلة ومقننة. وتمرّد الشباب على ذلك، وصار الصراع محصوراً بين استعادة الاستبداد للحفاظ على الأمن أو توسيع هامش الحرية.
حتّى حالة الفوضى وما يرافقها من تفجيرات وخوف وقتل وترهيب، على النقيض مما يفعله الاستبداد، هي تأكيدٌ لحضور الجسد. فرغم أن العدمي الذي يفجّر نفسه أو يطلق النار ليقتل غيره هو التمثيل الأبرز لغياب الجسد، إلا أنه يدفع الآخر، أي الضحية، إلى اكتشاف جسده وتحسّسه. لأول مرة يجد الفرد نفسه أمام كيان متكامل. فعندما يمرّ من أمام سيارة مركونة والشك والخوف ينهشانه باحتمال أن تكون مفخخة، وأنه قد يُقتل الآن ويفقد أحد أعضائه، فإنه في الوقت نفسه يشعر بوجوده، الروحي والجسدي معاً.
إن اكتشاف الجسد هذا يكشف لنا حقيقة هشاشتنا وفنائنا. لم نعد منيعين وخالدين، ولم يعد بإمكاننا دفن رؤوسنا في الرمال. إننا موجودون.
يمكن اعتبار زمن الفوضى واللاأمان والخوف من التفجيرات مرحلة في مواجهة مفاهيمنا الروحية والمادية، فهذا وقت تحسُّس الجسد. وليس ما سبق تبريراً للفوضى (فقد يُلغى الجسد تماماً إذا تجاوز العنف درجة معينة، وهو أبرز ما نراه في حالة العدمية التكفيرية)، بل هو محاولة لفهم جانب من علاقة الفرد بمفهوم السلطة والنظام، فالمواطن خائف من جسده. والغريب أننا لا نرى إلا حالتين: الحالة الروحية المنفصة المتمثّلة بالاستبداد أو الحالة الجسدية المادية البحتة المتمثّلة بالفوضى وحالة التفجيرات والقتل.
قمع الجسد قائم على اعتبارات استبدادية تحت مسميات مختلفة دينية أو اجتماعية، والحرية هي ما يسعى إليه الشباب، والجسد جزء من كياننا مع الفكر. وأي تغييب لأي جانب من ذلك هو تعدّ على حرية الفرد وإنسانيته، ومن فضائل الثورة أنها تهزّ عرش المسلّمات الاجتماعية وتدفعنا لإعادة النظر بما كنا نعتبره دائماً ثابتاً وأكيداً. ونحن نرى الآن تجارب شابة في مجالات الحياة كافة، من سياسة وفن وأدب، يكون فيه للجسد حضوره وحريته الضرورية.
* كاتب من سوريا
العربي الجديد