صفحات العالم

الثورة قادمة.. اجلس لننتظرها/ عبّاد يحيى

 

بعد انتخاب عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد رئيسين، وتقدّم الثورة المضادة ومحورها وإحرازها انتصارات أوليّة في غير مكان، يرتفع صوتان للتعقيب والتحليل والتفسير، حيال ما يجري. يحاول الأول إيهامنا أن الصرخات المبشرة برحيل الديكتاتور في شارع الحبيب بورقيبة لم تكن، وأن كل ما بذل لم يغيّر شيئا. وأصحاب هذا الصوت، غالباً، مستفيدون من إشاعة حالة التخذيل، إما لأن عودة النظم الديكتاتورية تصب في مصلحتهم، أو لأن التغير، إن حصل، سيخلّفهم متأخرين خلفه، من دون مكاسب ولا أدوار.

أما الصوت الثاني فهو لكثيرين، أرادوا التغيير الثوري، ورحبوا به، وعلقوا عليه آمالاً، إلا أنهم حافظوا على مسافة واسعة عن الجماهير والشارع، وهؤلاء إما باحثون أو معلقون أو محللون أو مثقفون أو قيادات لتيارات وجماعات، وقد رحبوا بالثورات ونظّروا لها، من دون التحام فعلي معها. واليوم، في مرحلة صعود الثورة المضادة، تطلق ألسنتهم وأقلامهم تنظيرات تؤكد حتمية الثورة وانتصارها، ولو بعد حين، وتراهن على التاريخ الذي لا يتوقف.

الصنف الأول مفهوم مكشوف، ودوافعه ومصالحه واضحة، أما الثاني فموقفه ملتبس، ويعوزه الوضوح. ولعل الوضوح يتبدّى في الفارق النوعي بين هذا الصنف والناشطين والفاعلين في الميدان، فالثوري لا يناقش التغيير التاريخي والاجتماعي، ويبحث عن إثباتات لحدوثه عاجلاً أم آجلا، بل يسعى لعيش هذا التغير والإسهام به وصناعته.

يتسم تنظيرٌ كثير عن الثورات العربية، أو التنظير لصالحها، ببرود ويقين مخاتل، مبعثه الاعتقاد أن الفهم يكفي للتصالح مع العالم، وأن إدراك حقيقة أن تناقضات النظام ستقود إلى انهياره، ضمن مسار حتمي؛ تكفي للنظر إلى ما يجري باطمئنان العارفين، وانتظار أن يكمل التاريخ مساره. في حين أن رهان الجماهير والفاعلين هو على دفع التناقضات إلى حدودها القصوى، واستجلاب التغيير القادم وتسريع حدوثه.

هنالك من يخلط اليوم بين مسيرة التاريخ بمجملها، أو تاريخ مجتمع، أو دولة أو نظام، والتاريخ الشخصي للأفراد. ويغفل عن أن سعي إنسانٍ، بعينه، إلى تحقيق كرامته، ونيل حريته، ليس مسألة تاريخ كوني، بل هي مسألة شخصية تماما. وضمن الخلط بين التاريخين، يسقط تاريخ الأفراد الشخصي المحدد والواضح والمجسد لصالح تاريخ عام مبهم مطلق.

مصيبة التنظير في تيارات حالمة كثيرة (من تنتظر نعيماً أو جنة أو مشاعية أو مخلصاً منتظراً أو دولة عدل مطلق) أنها تلغي التاريخ الشخصي لأفرادها، وتنقلهم إلى العيش في تاريخ شامل هو تاريخ الجماعة كلها، بل الكون، تاريخ حتمي سيحدث لا محالة، إن لم يكن اليوم، ففي أي زمن قادم، ولا يؤثر الفشل ولا الأخطاء في سير التاريخ نحو هدفه، ولا يعني التخاذل عن إدراك اللحظة الواقعة أن التاريخ يتعثر، أو يتوقف في مسيره أو يبطئ.

خروج الناس إلى الشوارع لمواجهة القتل ثمن تدفعه في سبيل تحقيق الحرية والكرامة في حياتها، وضمن تاريخها الشخصي الذي يمكن أن ينتهي برصاصة عنصر أمن. الزمن الشخصي هو ما يبذله المعتقل في سجون النظم العسكرية، في سبيل تحقيق حريته في أسرع وقت ممكن، ولا يمكن، بأي حال، إقناع هؤلاء بالتعويل على مسار التاريخ وحتمية الثورة القادمة والحق المنتصر في الأزمان المقبلة.

يعيد السياق إلى الأذهان التنظير الماركسي بشأن نهاية النظام الرأسمالي، يكفي تخيّل مشهد أمٍّ تقف أمام مسؤول التنظيم أو الحزب، بعد أن فقدت أبناءها العمّال في حربهم ضد النظام الرأسمالي البغيض، فيقول لها المسؤول، بثقة كبيرة، محاولا بث الأمل لديها، إن النظام الرأسمالي يحمل تناقضاته في داخله، وستتكاثر هذه التناقضات وتتوسّع، حتى ينهار من داخله تماما. لن تجد تلك الأمّ إجابة أفضل من ردّ والتر بنيامين في سياق شبيه: “إن لم تكن نهاية النظام الرأسمالي اليوم، وعلى يد طبقة العمال، فما فائدة كل ما قلناه وفعلناه!”.

إن كل التنظيرات التي تشوّش فكرة الناس عن حتمية تحقيق النصر في أثناء حياتهم الشخصية، وشهودهم للحرية بعد سنوات الاستبداد، إنما تخون تضحياتهم وتمكّن خصومهم منهم، ولا تدرك أن من سقطوا برصاص الأمن كانوا يحلمون بعيش لائق. ولا تعول النظم العسكرية والدكتاتورية على التاريخ، ولا تناقش مساره، بل تفرض الوقائع، وكل تنظير لا يرى الثورة، الآن وهنا، إنما يساعد النظم القائمة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى