الثورة هي السياسة الصحيحة
ياسين الحاج صالح
يغطي الثورة السورية من مواقع مؤيدة لها ثلاثة أصناف من المتكلمين: أولهم ناطقون إعلاميون ميدانيون من مواقع كثيرة داخل البلد، يتكلمون بأسماء صريحة أو بغيرها، إلى أقنية فضائية عربية متعاطفة، هي مصادر التغطية الأهم لنشاطات الثورة. تتفاوت نبرات هؤلاء المتكلمين، لكنها منفعلة جزِعة عموماً، ويقارب أكثرها نداءات استغاثة عاجلة. وينصبّ تركيز هذا الصنف من الناطقين على جرائم النظام، وعدد الشهداء والمعتقلين، وأعمال القصف والقنص، ويشيع أن تكون التغطية ذات طابع تحريضي. وبينما توفر هذه التغطية معلومات تفصيلية عما يجري هنا أو هناك في هذا الوقت أو ذاك، إلا أنها جزئية تعريفاً، لا تحيط بغير الوضع الآني في المنطقة المعنية.
وغير هؤلاء المتكلمين الميدانيين، هناك صنفان من المتكلمين السياسيين: صنف متماه مع الثورة، ولكن بصيغة انفعالية، وبنبرة جزعة تقارب الاستغاثة بدورها، يكاد محتواها لا يختلف عما يقوله الإعلاميون الميدانيون، وتعتمد في معلوماتها عليهم، وعلى ما قد يتوافر في مواقع إعلامية مرتبطة بالثورة. لكن سياسة هؤلاء تمزج بين مقاربة الناشط الميداني الجزئية، وبين ما لا سيطرة لهم عليها من مستجدات سياسية، تتصل بأفعال النظام السياسية أو بمواقف دول وهيئات دولية حيال الأوضاع السورية.
صنف ثان من المتكلمين السياسيين يَجمع بين ابتعاد عن وقائع الثورة ومساراتها وبين تصورات مجردة لما ينبغي أن تكون الثورة، وما يفترض أن تنضبط به من مبادئ وتوجهات، ولكن من دون حساسية للزمن، ومن دون جهد يذكر لتبين الأوضاع الفعلية، ولكيفية التأثير في هذه الأوضاع في الوجهة المرغوبة وبما يوافق القيم المعلنة. هذا الموقف جامد، وعاجز عن الفعل، بفعل جموده. ولا يندر أن يضيف إلى الافتقار إلى معرفة التفاصيل، افتقاراً إلى التعاطف أيضاً، أو ازدواجاً في العاطفة.
تتنوع أساليب المتكلمين ودرجات حضورهم وقدراتهم الإقناعية، لكنهم منذ بداية الثورة حتى اليوم يتوزعون على واحد من هذه التنويعات الثلاثة.
وما يغيب ويزداد الشعور بالافتقار إليه، هو موقع قريب من الثورة، من دون أن يكون منفعلاً وجزئياً من جهة، أو خارجياً وجامداً من جهة ثانية، بحيث يبقى على إحاطة بتعقد الأوضاع الجارية في البلد، ويمكن أن يساعد في محاولة التأثير عليها في الاتجاهات المرغوبة. لا تصلح من أجل ذلك مقاربة الناشطين الميدانيين الجزئية، ولكن لا تصلح أيضاً مقاربة جامدة تفرض قوالبها الخارجية على واقع متغير ومتزايد التعقيد، ولا مقاربة ملتصقة بوقائع الحراك اليومي، لكنها مفتقرة إلى نظرة عامة لا بد منها. تلزم مقاربة ديناميكية وتفاعلية، تحاول الإحاطة ببنية الثورة وتكوينها، وبامتدادها الجغرافي، وبمراحلها خلال نحو 14 شهراً، وبتموجاتها وتنوع وسائل مقاومتها، وتربط ذلك بالهدف المباشر، إسقاط النظام، والهدف اللاحق، سورية الجديدة الحرة.
وينكشف قصور هذه المقاربات الثلاث من ملاحظة التفارق بين ما يطبعها من قلق أو تشاؤم وبين واقع الثورة المستمرة وتقدمها الثابت في إرهاق النظام واستنزاف قواه. مفهوم أن تعطي تغطيات الناشطين الميدانيين انطباعات قلقة، لأنهم يتكلمون بينما تتعرض مناطقهم للقصف أو يسقط عندهم الشهداء أو تقع مجازر. مع ذلك يؤكد أكثر هؤلاء المتكلمين لسامعيهم أن الثورة مستمرة ولن يوقفها شيء، رغم الآلام والأكلاف الباهظة. والحالة النفسية للبؤر الثائرة تجمع بين التفاؤل والعزم، وليس بحال التشاؤم والقنوط.
أما تشاؤم المتكلمين المتماهين بالثورة، فينبع من انفعالهم وجزئية منظورهم، وما يقترن به من جزع، وكذلك من انعزالهم عن عملياتها الفعلية وعدم تبينهم منابعها ومحركاتها (أكثرهم يقيم خارج البلد). ويتشاءم الناطقون السياسيون المنفصلون لأن الثورة لا توافق منظوراتهم، ولا تكفّ عن الخروج من القوالب التي كان يتعين عليها أن تنضبط بها.
في واقع الأمر لا مبرر أبداً للتشاؤم. بنظرة عامة إلى البلد ككل و14 شهراً من العنف الدموي الذي واجه به النظام الثورة وبيئاتها الاجتماعية، والتعقيد الكبير للشروط الاجتماعية والسياسية الداخلية وللشروط الإقليمية والدولية حول سورية، فإن استمرار الثورة وما يظهره الثائرون من عزيمة متجددة هما معجزة بكل معنى الكلمة.
ويبدو أن النظام أفضل من يدرك ذلك بعدما جرب كل شيء في مواجهتها، وهو الذي يعرض قدراً متزايداً من التشاؤم، على نحو ما تظهر التفجيرات الإجرامية في الأسابيع الأخيرة في كل من دمشق وحلب، بخاصة تفجيري دمشق (10/5/2012) نرجح أن النظام بات على يقين من أن استعادة السيطرة العامة ممتنعة، وأن الأجدى له التركيز على المدينتين الكبريين، وتخويف سكانهما من التحرك ضده، علما أن تحركهما لا يكف عن الاتساع. هذا بينما أضحت قوات النظام مرهقة تعاني من «فرط تمدد إستراتيجي»، ويتسع ارتيابه بدوائر رجال الأعمال، وتقل موارده رغم التعويض الإيراني.
إن صح ما نقول، تتمثل النقاط الأساسية في خطة الثورة في المرحلة المقبلة، في كسب المزيد من الوقت، واستنزاف المزيد من قوى النظام وأعصابه، وتكثير بؤر الثورة، والثبات على الهدف المباشر: إسقاط النظام.
وليس في هذه الخطة ما هو جديد، وتكاد الثورة تسير عليها من دون توصية من أحد. ولكن من شأن العودة إلى البديهيات التي تقول إن الثورة في الداخل واتساعها واستمرارها هو السياسة الصحيحة، أن تضفي قدراً من الوضوح على تفكيرنا، وتحدد في صورة أفضل ما يُنتظر من قوى المعارضة.
فبما أن الثورة مستمرة والنظام يزداد عجزاً في مواجهتها، فإن الوقت لمصلحتها، خلافاً لما يقول معظم المتكلمين المعارضين. ويترتب على ذلك أن المبادرات الدولية مرحب بها طالما لا تمس في شيء، استمرار الثورة. وبما أن استمرار الثورة يعني أكلافاً بشرية ومادية كبيرة، ففي هذا تستطيع المعارضة أن تكون مفيدة، وذلك بالعمل لتأمين موارد تخفف أثر تلك الأكلاف أو تعوض ما يستطاع منها. ثم إن التخلص من التشاؤم، يوفر للمعارضين من الوقت والأعصاب ما يكفي لبلورة تصورات حول سورية الجديدة. هذا ما يفترض أن المعارضة تحوز ميزة خاصة فيه.
ولكن قبــل كل شيء، ينبغي أن تندار الأعــناق نحو الداخل. لا شيء يجـــدي دون ذلك.