الثورة والسلاح: خطوط عريضة من القصة*
ياسين الحاج صالح
ما بين تفجرها في منتصف آذار 2011 وبدء عمل المراقبين الدوليين في إطار مهمة كوفي عنان بعد 13 شهرا، مرت الثورة السورية بثلاثة مراحل.
تمتد أولاها من 15 آذار إلى مطلع آب 2011، وهي مرحلة الاحتجاجات الشعبية المتسعة التي بلغت الذروة في مظاهرات وحماة ودير الزور، وقد شارك في كل منها مئات الألوف؛ وتغطي المرحلة الثانية الفترة الممتدة من مطلع آب إلى مطلع شباط 2012، وهي مرحلة تحول النظام من المعالجة الأمنية الغالبة إلى المعالجة العسكرية والحربية في مواجهة الثورة؛ أما المرحلة الثالثة فبدأت في 3 شباط من هذا العام، وهي مرحلة الإرهاب وسياسة الأرض المحروقة والتوسع في القتل وتدمير الأحياء والبلدات، وبخاصة في حمص وإدلب وحماه ومناطق دمشق.
المراحل متداخلة. زج النظام الجيش في مواجهة الثورة منذ البداية، وثابر على القتل اليومي طوال الوقت. وظهرت انشقاقات في الجيش في هذه المرحلة أيضا، ومعها بداية المقاومة المسلحة. تعود أبكر الانشقاقات إلى الأسابيع الأولى من الثورة، ويرجح أن محركها الأصلي احتجاجي وضميري: رفض قتل مواطنين مسالمين. لكن المقاومة المسلحة ظهرت أساسا في المرحلة الثانية. وخلال المراحل الثلاث والشهور الثلاثة عشر كلها استمرت المظاهرات أداة التعبير والاحتجاج الرئيسية.
في 9/6/2011، انشق المقدم حسين الهرموش وشكل “تجمع الضباط الأحرار” (استدرج هرموش من تركيا في الخريف الماضي واعتقل وعذب، ثم أظهر على التلفزيون السوري ليقول كلاما يناسب النظام، ويحتمل أنه أعدم)، وفي أواخر الشهر السابع تشكل “الجيش السوري الحر” بقيادة العقيد المنشق رياض الأسعد كإطار عام للمجموعات المنشقة، بما فيها الضباط الأحرار. لكن اندرجت أيضا تحت العنوان نفسه مجموعات مدنية تعرضت بيئاتها الاجتماعية للسحق، وإن كان من المحتمل أن بعضها كان يضمر في الأصل سخطا شديدا على النظام، ويتطلع إلى فرصة للتخلص منه. ومن هؤلاء من هم إسلاميون إيديولوجيا، وبينهم من نسل أسر من حماة وإدلب وغيرهما فقدت بعض أبناءها قبل 30 عاما.
الشيء الأكيد أن ظهور هذا المكون العسكري للثورة لم يكن خيارا لأحد أو بناء على دعوة أحد أو تحقيقا لإيديولوجية قتالية جاهزة. لقد ظهر أساسا كنتاج جانبي متسع لعسكرة النظام مواجهة الاحتجاجات الشعبية منذ البداية، ثم أخذ يستمد تسويغه من المتاح الإيديولوجي السوري، ومنه “الجهاد”. لكن منذ البداية وحتى اليوم ظل التسويغ الأقوى والأكثر شرعية هو الدفاع عن النفس وحماية السكان المدنيين من بطش النظام والعمل على إسقاطه.
بلغت المرحلة الأولى أوجها في مظاهرات ضخمة في حماه ودير الزور على غرار نموذج ميدان التحرير المصري. ربما تردد النظام في مواجهة مظاهرات حماة تحديدا، لما كان لها من موقع في الضمير الوطني السوري بعد تعرضها لمذبحة في شباط 1982، يحتمل أن 30 ألفا سقطوا ضحيتها. صادف أيضا أن زارها السفيران الأميركي والفرنسي في7 تموز 2011، وكان يوم جمعة، فشكل ذلك حماية نسبية لها. لكن في مطلع شهر رمضان، وقد صادف مطلع شهر آب، احتل النظام المدينة بالدبابات، وفعل الشيء نفسه في دير الزور، وفي حمص وإدلب ومناطق دمشق، فضلا عن درعا. وترافق ذلك مع ذرى غير مسبوقة من التعذيب والقتل تحت التعذيب، لم يسمع السوريون ما يقاربها منذ ثمانينات القرن العشرين، هذا فوق ما يسقط يوميا دون توقف من ضحايا، كان متوسطهم في المرحلة الأولى عشرين يوميا.
بعد نشر الجيش والاحتلال العسكري للمدن والبلدات الثائرة، ومع تصاعد التنكيل بالسوريين، أخذت تظهر مبادرات عربية لمعالجة الأزمة السورية. أهمها كانت إرسال مراقبين عرب في الثلث الأخير من الشهر الأخير من عام 2011، لمراقبة التزام النظام بوقف إطلاق النار، لكنها لم تثمر شيئا عمليا.
وبفعل هذا المزيج من العدوان النظامي ومن شعور بالخذلان وفقدان السند، وبخاصة بعد تعطيل روسيا والصين مساعي عربية ودولية دولية لإدانة النظام يوم 4 تشرين الثاني 2011، أخذت تسمع أصوات تضيق ذرعا بالسلمية، وتدعو إلى مواجهة العنف بالعنف. في خريف 2011، أخذت تتعالى هتافات في حماه وجبل الزاوية، تقول: لا سلمية ولا بطيخ/ صار بدها رصاص وطاخ طيخ!
لكن الطابع العام للثورة بقي سلميا، وتولى عناصر “الجيش الحر” حماية المظاهرات وتوفير عنصر ردع نسبي لقوى النظام، وإن لم يكن السجل في هذا الشأن ليس مطردا. يبدو أن حضور مسلحين ضمن مظاهرات شكل عامل خطر إضافي عليها أحيانا، على ما قال منسقو مظاهرات دير الزور في أواخر الثلث الأول من شهر نيسان 2012. لكن معلومات أخرى مباشرة من دير الزور نفسها تقول إن جميع مظاهرات المدينة محمية من الجيش الحر. من الوقائع المميزة للثورة السورية تداخل المعلومات الموثوقة والآراء الشخصية، بسبب صعوبة الحصول على المعلومات من مصادرها المباشرة، وعسر المعاينة المباشرة للواقع عموما.
في الوقت نفسه أخذت هتافات المحتجين السوريين ولافتاتهم تعبر أكثر وأكثر عن شعور مر بأنهم متروكون لمصيرهم. قالت لافتة ظهرت في خريف 2011 أيضا، واشتهرت في سورية: “يسقط النظام والمعارضة، تسقط الأمة العربية والإسلامية، يسقط مجلس الأمن، يسقط العالم، يسقط كل شيء!” ومثل هذه الحالة النفسية، قد تدفع إلى مسلك سلبي وانسحابي، لكن يبدو أنها في السياق السوري العياني تزكي بالأحرى مسلك مواجهة بالقوة. البلدة التي رفعت اللافتة هي كفرنبل التي تصف نفسها بالمحتلة، وهي تقع في محافظة إدلب، أحد أنشط مهود الثورة، مدنيا وعسكريا، والأقرب للحدود التركية.
والإشارة إلى المعارضة في اللافتة الشهيرة ذات أهمية خاصة. فقد تأخر كثيرا تشكل إطار سياسي ملتصق بالثورة ومحتضن لقضيتها، وحين تشكل في الثاني من تشرين الأول 2011 المجلس الوطني السوري، لم يكن جامعا ولا ذلك القطب الدينامي الذي يمكن أن يكتسب ثقة السوريين ويقود كفاحهم. في هيكلته الداخلية وفي إيقاع عمله وفي المعلوم من أنشطته لم يكن المجلس الوطني قوة جاذبة أو مقنعة. هناك تشكيلات معارضة أخرى لكنها أضيق تمثيلا بعد، وتبدو أكثر انشغالا بمعارضة المجلس الوطني مما بمواجهة النظام.
هذا أظهر الطيف السوري المعارضة بمظهر رث وضعيف الإقناعية. وهو من عناصر الخلفية التي تشرح جانبا من عملية اللجوء إلى السلاح. غياب القيادة السياسية المجربة والموثوقة يدفع الناس إلى الاعتماد على أذرعهم. لم يمد أحد يد العون للسوريين، ولم يعدهم أحد بأي شيء، هذا بينما يستمر النظام في الفتك اليومي بهم.
حركة الانشقاقات استمرت في المرحلة الثانية. لم يقع انشقاق كبير في الجيش السوري، بل انشقاقات صغيرة كثيرة متتابعة خلال شهور الثورة الطويلة. وقد خلق هذا “التطور غير المتكافئ” وغير المتزامن للانشقاقات واقعا خاصا، يتمثل في عدم وجود إطار مؤسسي جاهز لاستيعابها، ويوجب تشكيل من إطار يوحدها أو يحتوي تناثرها، وهذا أمر صعب لا يزيده إلا صعوبة انضمام مدنيين كثيرين إلى المكون العسكري المتسع الصفوف. الجيش الحر بقي بنية رخوة لأنه نشأ تحت ضغط الحاجة، ودون أن يحوز مؤسسوه من شرعية غير الأقدمية.
وفي المرحلة الثانية والثالثة صار يسمع كلام عن محاولات أفراد ومجموعات تمويل مجموعات مقاتلة مقابل الولاء لها. ذكر أحمد رمضان وعماد الدين رشيد بالاسم. إن صحت هذه المعلومات فإن هذا السلوك جريمة، محاولة لبناء ميليشيات تمنح أصحابها، ومن يحتمل أنهم وراءهم من جماعات أو جهات إقليمية، وزنا سياسيا. وهو إضعاف للثورة وللجيش الحر ذاته، وخدمة مجانية للنظام.
في أواخر المرحلة الثانية أخذت تظهر ملامح فوضى سلاح. هناك معلومات عن خطف وطلب فدية في مواقع من محافظة إدلب في الشتاء الماضي، وعمليات خطف وتبادل معتقلين مع النظام في حمص، وعمليات انتقام طائفية في حمص أيضا. ويحتمل أن مجرمين وأصحاب سوابق يستفيدون من الأوضاع المضطربة في البلد كي يجنوا المكاسب. ولا يبعد في بعض الحالات أن أجهزة النظام الأمنية تحرضهم على ذلك، بهدف إلصاق عملياتهم بأي مقاومين محتملين، ودفع الناس إلى التأسف على الأيام الخوالي. هذا مرجح في إدلب حسب ناشطين هناك.
لكن أيضا هناك معلومات أكيدة عن مجموعة واحدة على الأقل، سلفية العقيدة (مجموعة النور)، وتتحرك في محافظة إدلب أيضا، ويبدو أنها مسؤولة عمليات خطف وطلب فدية في تلك المنطقة.
ومن معلومات مباشرة من منطقة جبل الزاوية في إدلب، فإن المسلحين هناك أربعة أصناف، أولها الجيش الحر، وهم منشقون عن الجيش أو عن الشرطة والمخابرات، وأكثرهم صف ضباط وجنود. وسلاحهم خفيف، رشاشات بي كي سي وقاذفات آ ربي جي. ولديهم أجهزة اتصال لا سلكية تربطهم بعناصر الجيش الحر الآخرين. ويقومون أحيانا بعمليات ضد الحواجز العسكرية والدوريات، ويحصلون على معظم أسلحتهم من هذه العمليات. الصنف الثاني، مجموعات مسلحة من شباب الثورة، بدأت بالتشكل مع استخدام العنف ضد المحتجين، سلاحهم خفيف ومهمتهم حماية مداخل القرى والبلدات والمظاهرات وبعض العمليات الصغيرة، قسم منهم يميل للعمل تحت قيادة الجيش الحر، وبعضهم يحاول الحفاظ على استقلاليتهم. وبعض هذه المجموعات يقودها إسلاميون من أبناء ضحايا الإخوان المسلمين.
وتنال بعض هذه المجموعات الأخيرة دعما ماديا من أسر ميسورة، وهو ما ينعكس انضباطا أعلى في أوساطها.
وفي المقام الثالث هناك مجموعات النصابين والمحتالين ومهربي الآثار وجنائيين سابقين، هؤلاء يستغلون اسم الثورة، ويخطفون ويطالبون بالفدية ويسرقون السيارات وكابلات الكهرباء، ومجموعاتهم تكاثرت بعد دخول الجيش النظامي إلى المنطقة أثناء المرحلة الثانية.
وهناك أخيرا لصوص مسلحون، كانوا موجودين قبل الثورة.
وفي الأسابيع الأخيرة هناك تطورات مهمة في تلك المنطقة مثل توثيق أسماء عناصر الجيش الحر، والعمل على إدماج المجموعات المستقلة، ومواجهة مجموعات النصابين والمحتالين.
وهناك أيضا جهود حقوقية وسياسية تهدف إلى وضع مدونة سلوك لضبط عمل مجموعات الجيش الحر، لكنها تصطدم بضعف المركز القيادي للجيش الحر، وبضعفه الفكري والسياسي أيضا.
بدأت المرحلة الثالثة يوم 3 شباط 2012، وكان مهدها الأساسي هو مدينة حمص، وتحديدا حي بابا عمرو الذي كان أحد معاقل المقاومة المسلحة. سقط الحي بيد قوات النظام في مطلع آذار بعد ما يقارب شهرا من الحصار والقصف اليومي بالدبابات والمدافع والصواريخ. واستأنف بعدها النظام فعل الشيء نفسه في أحياء حمص الثائرة الأخرى، وارتكبت مجازر كراهية طائفية، أشهرها في حي كرم الزيتون في 11 آذار 2012، وقد ذهب ضحيتها 47 امرأة وطفلا، قتلوا بطريقة بشعة، واغتصبت النساء من بينهم.
لكن بعد أكثر من شهرين ونصف على اقتحام بابا عمرو، لا يبدو أن لهذا النجاح النظامي مستقبل، ولم يستطع النظام أن يبني عليه شيئا.
سياسة الإرهاب الشامل والأرض المحروقة امتدت أيضا إلى مناطق إدلب وحلب ودرعا ودير الزور وأرياف دمشق. وشملت هدم وحرق منازل ناشطين، بعد نهبها طبعا، وحرق بعض الضحايا. خلال هذه الفترة كان معدل وقوع الضحايا يتراوح بين 70 و100 يوميا.
جاء هذا التصعيد بعد يوم واحد من نقض روسيا والصين، للمرة الثانية، قرارا حول سورية وزيارة وزير الخارجية ومدير المخابرات الروسية إلى سورية. ويبدو أن الرجلين شجعا النظام على الحسم على الأرض، بعد تغطيته سياسيا في مجلس الأمن.
خلال هذه الوقت كله، كان المكونان العسكري والمدني للثورة مترابطان عموما من حيث الحيز المكاني، ربما باستثناء مواقع محدودة على الحدود التركية. بسلاحهم الخفيف ومواردهم المحدودة، ومنابتهم الاجتماعية المتواضعة، أقام أكثر الجنود المنشقين في مناطقهم الأصلية، يدافعون عن أهاليهم ويعيشون بينهم، ويحاولون مقاومة النظام بقدر المستطاع. وهذا أكثر انطباقا بعدُ على من هم مدنيون بينهم في الأصل.
هذا الرابط هو ما عمل النظام على تحطيمه بتحطيم البيئات الاجتماعية للمقاتلين، مستفيدا من الغطاء الروسي الصيني، ومن الدعم العسكري الروسي الإيراني.
وبفعل تواضع إمكانياتهم، وإمكانيات بيئاتهم نفسها، كانت تقدم للمقاتلين مساعدات من مجموعات إغاثة، تجمع تبرعات من مواطنين متعاطفين. وتشكل هذه المجموعات التي أنشئت في كل مكان من البلد مكونا أساسيا من مكونات الثورة.
النقطة المهمة جدا خلال هذا الوقت كله أيضا أن ما كان ثورة شعبية مدنية وسلمية ظل كذلك إلى حد كبير، وأنه لم يتحول أبدا إلى مواجهة بين طرفين مسلحين، نظام ومعارضة، خلافا لما توحي وسائل إعلام النظام أولا، وكذلك وسائل إعلام عربية ودولية تهتم بطبيعتها بأخبار العنف والموت، أكثر مما بالوقائع اليومية لثورة شعبية، ظل المكون العسكري الفاعل عنصرا ملحقا بها، وليس بحال العنصر الطليعي فيها. ليست الثورة السورية تمردا مسلحا، إنها ثورة سلمية، لها مكون مسلح.
***
في أواخر المرحلة الثانية، وأكثر في المرحلة الثالثة، أخذ يسمع ضمن الطيف السوري المعارض تحفظ على المكون العسكري للثورة، يميل إلى تحميله مسؤولية توحش النظام، ويحن إلى أيام الثورة الباكرة.
وفي حين يعبر هذا الطرح عن مزاج سلمي واسع الانتشار في الثورة، وعن خشية محقة من مخاطر التسلح وما يتسبب به من تعقيدات اليوم ومن مضاعفات مستقبلية محتملة، فإنه يتواتر أن يجري إفساد النقاش بتحويله إلى نقاش عقدي، أو عنوان لتمايز معسكرات سياسية وفكرية، بدل أن يبقى متصلا بالواقع وإكراهاته واعتبارات الملاءمة.
على كل حال يخطئ هذا الطرح في ثلاثة أمور.
أولها أنه يميل إلى نسبة ظهور المكون العسكري إلى اختيارات سياسية لأفراد أو مجموعات. هذا غير صحيح بالمطلق. لقد ظهر اضطرارا بفعل عنف النظام الوحشي. أن تكون أسبغت قيمة إيجابية على ما ظهر اضطرارا، عبر هتافات من نوع: الله محيي الجيش الحر! أو تسمية يوم الجمعة 26 تشرين الثاني 2011 بجمعة “الجيش الحر يحميني”، فهذا ما يفعله البشر في كل مكان للتصالح مع اضطراراتهم.
ثانيها أن مثل هذا الموقف يقترن بسلوك انسحابي، يحرم القائلين به من أية فرصة للتأثير على واقع يزداد تعقيدا. ليس متوقعا بحال مثلا أن أصحاب هذا الموقف سيهتمون بسبل تنظيم عمل الجيش الحر ومساعدته على احتكار السلاح والعمل على ضبط سلوك مجموعاته وإخضاع نشاط المقاتلين للمصلحة العامة للثورة. هذا بحد ذاته صعب جدا، ويتواتر أن تثير الجهود المبذولة أشد الإحباط، أما إذا رفضناه رفضا خارجيا مجردا، فإن الرفض لا يقود إلا إلى مزيد من خروجه عن أي تحكم وتحوله إلى عنصر فوضى.
إلى ذلك فإن لدينا ألوفا من المقاتلين، العسكريين والمدنيين، تحركوا لحماية مواطنيهم، مع علمهم بأن المصير الوحيد الذي يدخره لهم النظام هو القتل الشنيع، وقد سقط منهم المئات أو أكثر بالفعل، ما العمل بهؤلاء؟ يرفع عنهم أي غطاء أخلاقي أو سياسي، ويسلمون لقمة سائغة للنظام؟ ليس هناك بديل غير مساعدتهم على تنظيم عملهم العسكري، وربطه بالقضية العامة وتأمين موارد مادية تعيلهم. انضباط المقاتلين يتناسب مع توفر موارد تضمن لهم عيشا كريما.
تنظيم المقاتلين، إداريا وسياسيا وفكريا وماديا وأخلاقيا، هو الخيار الذي دافع ويدافع عنه كاتب هذه السطور، وهو الذي يتوافق مع حماية سلمية الثورة. وفي كل مرة اضطر معارضو المكون العسكري إلى مناقشة جدية للسياسة الملائمة حيال هذا المكون كانوا ينتهون إلى شيء قريب من هذا الخيار.
وفي المقام الثالث لا يقترح أصحاب هذا الطرح شيئا غير العودة إلى الوراء، إلى أيام الثورة الباكرة والسلمية بالكامل. والافتراض المضمر في هذه الدعوة أن المقاومة المسلحة تسببت بتراجع المقاومة الاجتماعية المدنية. هذا غير صحيح، للأمرين معا سبب مختلف، هو العنف المجنون من طرف النظام. علما أن النشاط الاحتجاجي السلمي لم يتراجع إلا في المواقع المحتلة والمعرضة لأشد بطش النظام، وأن بعض المظاهرات الأكبر في حلب والرقة، ودمشق ذاتها، وقعت في المرحلة الثالثة. أما بؤر التظاهر الأقدم فكانت تنبعث مجددا ما إن يخف ضغط قوات النظام عليها. ليس بسبب وجود مقاتلين تراجع التظاهر، العكس هو الصحيح. من يكفون عن التظاهر يلجؤون إلى السلاح أو يبحثون عن السلاح. وهو ما يحصل تحت وطأة عنف النظام وشعور السكان بالانكشاف والهشاشة.
وتقديري أن دور المكون العسكري كان عنصرا مساعدا للثورة السلمية وأسهم في توسعها وصمودها، ولم يكن خصما منها، خلافا لما تقول وجهة نظر رائجة. كان من شأن الاقتصار على الاحتجاج السلمي أن يجعل الثورة أضعف أمام النظام، رغم التفوق الأخلاقي الذي لا ريب فيه للاحتجاج السلمي المحض.
وبنظرة عامة إلى الثورة ككل، نرى أن الاحتجاج السلمي والمقاومة المسلحة سارا معا، وليس واضحا لماذا يتعين على الثورة أن تستغني عن مكون عسكري دون أدنى مؤشر على تغير في المناخ السياسي العام في البلد، ودون أدنى استعداد من طرف النظام للتخلي عن عسكرته أو تقييدها، ومنها الزج على نطاق واسع بمدنيين في مواجهة الشعب الثائر. “الشبيحة” مدنيون موالون للنظام، كثيرون منهم مجرمون وأرباب سوابق. فإذا استمر النظام في تصعيد عسكرته في مواجهة الثورة، وليس هناك أدنى مؤشر على العكس، فما سنشهده هو توسع الميل إلى التسلح والمواجهة العسكرية، وربما التحول من “الجيش الحر”، وهو أصلا عنوان فضفاض للمقاومة المسلحة، إلى مجموعات جهادية. وهذه قضيتها دينية وليست وطنية، وأداتها هي العنف العدمي أو “الإرهاب”.
والواقع أنه منذ أن ظهر المكون العسكري للثورة، فإن السؤال العملي الوحيد الذي يطرحه ظهوره هو كيف يمكن تنظيم عمله بحيث يكون سندا لقضية الثورة. أما الأمل بأن يختفي بطريقة سحرية ما، أو بمجرد الاعتراض على وجوده، دون نظر في الأسباب والأصول، فمسلك عقيم.
خيارات السوريين اليوم ليست بين وجود مكون عسكري للثورة وبين عدم وجوده، بل بين وجوده بصورة منظمة بعض الشيء، أو وجوده دون تنظيم. وليس هناك أي نقاش في أن الخيار الأول هو الأكثر جدية.
هناك تطور محتمل، أومأنا إليه قبل قليل، هو التحول من المقاومة المسلحة المنظمة بقدر ما إلى العنف الجهادي العدمي. لقد نشأت المقاومة المسلحة بفعل رفض النظام للسياسة ومواجهة النظام للثورة بالسلاح، فإذا مضى في تصعيد النظام عنفه إلى مستوى الإرهاب، تهيأت الظروف أكثر من أجل العنف الجهادي وأساليبه الإرهابية.
***
على أن هناك مضاعفات حقيقية لعسكرة الثورة يتعين التنبه لها منذ الآن والتفكير في سبل تداركها.
أول هذه المضاعفات أن الخسائر البشرية والمادية التي تترتب على نزاع داخلي مسلح أعلى دونما ريب من تلك التي تتسبب بها احتجاجات سلمية محض، وأنه يحتمل لنزاع مسلح داخلي أن يجر تدخلات خارجية بنسبة أعلى مما من احتجاجات سلمية.
وثانيها تضيق قاعدة التماهي بالثورة. لا ريب أن ثورة سلمية بالكامل تجتذب إليها جمهورا متنوعا من حيث الجنس، ومن حيث الأجيال، ومن حيث الأصول الدينية والمذهبية، فوق أنها تنال تعاطفا خارجيا أوسع. النقاش حول العسكرة والتسلح في أوساط الناشطين في الشأن العام يحيل إلى هذا الواقع. في شهورها الأولى لم توفر الثورة السورية لأحد سببا لأن يكون ضدها. لكن ظهور مكون مسلح للثورة وضع بمتناول جمهور متردد بدرجات متفاوتة سببا لأن يزدادا ترددا أو يتحول إلى السلبية أو حتى معاداة الثورة.
وثالث مضاعفات ظهور المكون العسكري للثورة أن مشكلات سورية الجديدة، التالية للسقوط المأمول للنظام سلما، أسهل تدبرا بما لا يقاس مما يتوقع من مشكلات تتلو سقوطه بالسلاح. التجارب التاريخية، من فرنسا إلى روسيا إلى الصين إلى الجزائر، تفيد أن الأوضاع التالية لثورات عنيفة تبقى مضطربة لسنوات طويلة.
القول إن الثورة اضطرت إلى حمل السلاح، وهو صحيح جدا في رأينا، لا ينبغي أن يمنع، ومنذ الآن، التفكير في سبل مواجهة هذه المضاعفات والتخفيف من آثارها.
والواقع أننا مما يظهر عمق الثورة السورية وعدالة قضيتها أن العسكرة كانت دفاعية إلى حد بعيد، وأنها لم تتحقق على حساب أشكال الكفاح السلمي، وأنه يبدو أن الثورة تحوز آليات تصحيح ذاتية لبعض تجاوزاتها، وهذا أهم من أن تكون الثورة بلا تجاوزات (على استحالة ذلك)، وبالطبع من أن لا تنظر في نفسها ولا تراجع مسارها ولا تصلح أخطاءها.
***
ختاما، تواجه المكون العسكري للثورة أربعة تحديات اليوم. الأول تنظيمه الذاتي وعقيدته العسكرية وقواعد السلوك الواجبة في أوساطه؛ والثاني مقاومة محاولات أشخاص أو جهات إقليمية تمويل مجموعات منه، أي صنع ميليشيات تابعة، خاضعة لأجندة مموليها وليس لقضية إسقاط النظام وبناء سورية الجديدة؛ والثالث التحدي الإرهابي، ما يحتمل أن يكون منه ذاتي التولد أو من صنع النظام السوري؛ وبالطبع المواجهة الفعالة والمرنة للنظام، وتحديد معايير الإنجازية على هذا المستوى. كل من هذه التحديات جسيم، وهي معا هائلة.
لقد وقعنا بين فكي الوحش، التاريخ. ولن ينقذنا غير تبصرنا وحسن سياستنا.
*كتب متن هذه المادة لكتاب بالألمانية عن الثورة السورية، تحرره لاريسا بندر، ويصدر آخر هذا الصيف.