الثورة والعسْكَرَة جناحان لطائرين مختلفين دائما/ مطاع صفدي
قديمة ووافدة، تلك الآراء والنظريات التي تؤكد أن حضارات الشرق ليست معنية بقضايا الحريات الفردية، وأن أعدل هذه الحضارات لم تنشغل بمسائل حقوق الإنسان، وإن اهتمت غالباً ببعض الحقوق ذات الصفة الجماعية ،حتى الحضارة العربية الإسلامية فإنها لم تُقِم ثمة اعتباراتٍ واضحةٍ لما يمكن أن يُصطلح عليه باسم حاكمية للإنسان إزاء حاكمية مطلقة للإله وحده. بل اعتبرت أن جماعة المؤمنين هي المسؤولة عن رعاية حقوق أفرادها. لكن هذه الروح الجمعية لا تخص ثقافة بعينها لهذه الحضارة أو تلك. فهي سِمَةٌ شاملة لمرحلة المجتمعات ما قبل الصناعية. فلم تقم شرعة واضحة لحقوق الإنسان في الغرب إلا في مطلع العصور الحديثة؛ وقد أرست الثورة الفرنسية مفرداتها، وجعلتها دستوراً أممياً، صالحاً لقيادة أية مجتمعات متحررة من أنظمة الاستبداد، ومتجاوِزة لصياغتها التقليدية، من نُخَب طاغية وشعوب، هي رعايا من الأتباع. هذه الشرعة تؤذن بولادة مجتمع المواطنة. ما يعنيه هذا المصطلح هو أن المجتمع المتحرر استطاع أن يحقق قطيعة عملية مع بنيته الطبقية السابقة. أنهى علاقات القوة والاستغلال مابين الفئة القوية المتسلطة، المغتصِـبة لمصالح العامّة وحرياتهم المباشرة، وبين الأكثرية المحرومة من القول والفعل معاً.
فإذا كانت دول النهضة الاستقلالية للعرب المعاصرين قد عانت تجاربها التكوينية أشكالاً متناقضةً من التحولات، الموصوفة تارة بالإنقلابية، وتارة أخرى نادرة بالثورية، إلا أنها في مختلف أحوالها تلك لم تضع أيةُ حركة تغييرية شرْعةَ حقوق الإنسان نصب عينيها. فإن لفظة (الديمقراطية ) يمكن اعتبارها دخيلة نوعاً ما على الشعارات الكبرى التي حركت جماهير النصف الثاني من القرن الماضي. كانت «الطلائع» الثورية تقدم العناوين القومية والإجتماعية إلى واجهة الأحداث. في حين أن لفظيات الديمقراطية وتوابعها كانت من نصيب الألسن والأقلام الموصوفة آنذاك بالرجعية، والمتحالفة مع الاستعمار والصهيونية. لكن غياب اللفظ الديمقراطي من مفردات الثوريات العربية لم يكن تغييباً لأهم معانيها وهي الحرية. بل كان التعلق بالشعارات القومية والإجتماعية ينطوي ضمناً على اعتبارها كوسائل منهجية هادفة إلى إعادة إنتاج مجتمعات الإستقلال العربي كشعوب متحضرة لائقة بالتمتع بحريات أبنائها. إذ كانت النهضة المعاصرة ذات منهجية تكوينية. معظمُ أقطار العرب كانت حبيسة لألف سنة في معازل من الاستعمار والانحطاط، النائية عن التقدم العالمي. كان العرب، وما يزال معظمهم، مفتقرين إلى أبسط أسباب الوجود الإنساني الخام. كان ثالوث الفقر والجهل والمرض يفتك بأجيالهم الصاعدة؛ لم يشكل المتعلمون، أو أشباههم بالأحرى، إلا جُزراً صغيرة متقطعة، عائمة على السطوح، من بعض المدن القليلة الكئيبة، المتناثرة في هوامش الصحارى، أو المتوحدة في شواطئ أنهار أو أبحار متباعدة.
هذا الواقع الجغرافي والسكاني والاجتماعي لعالم عربي، مستيقظ أخيراً على حاضره المأزوم ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت شعوبه مفتقرة إلى كل شيء إلا من إرادة الإستقلال عن المحتل الأجنبي. ولسوف تظل هذه الإرادة هي المصدر الأول والأهم لشتى المبادئ العامة الأخرى التي تحركت وراءها جماهير أقطار عربية معينة، تسلّمت واقعياً ريادةَ التغيير والعمل العام على المستوى الوطني ثم القومي الشامل.. غير أن تاريخ هذه الحقبة من انشغال نهضة ما بعد الاستقلال بالتحرير والتعمير معاً، كانت بمثابة الولادة الجديدة لأمة كاملة، منسية حتى من قبل ذاتها. وقد حفلت هذه الحقبة بأعظم الآمال الخلاصية، كما مُنيت بأفدح الخسارات الكلية والهزائم المادية والمعنوية. كانت «الأمة» خلالها، في حجومها الكبيرة، شبه سادرة، تراقب ما يفعله باسمها رموزُ عابرة، منتمية إلى النُّخَب القليلة الطافية على سطوح الحياة المجتمعية؛ بحيث يتنازع الحراكَ على هذه السطوح تكوينان حديثان للدولة الإستقلالية الناشئة، وهما من فئة العسكر، ومن فئة المتعلمين الجدد. هذا التنازع تحكّم في المصائر البائسة التي ستقع فيه الأقطار المتحركة، من مهاوي التجارب السلطوية، الفاشلة كلها في مآلاتها الأخيرة.
لم تنزل الجماهير المليونية إلى الميادين مع ما يسمّى بزلازل الربيع العربي إلا بعدما استنزفت الحقبة الإستقلالية تلك، كلَّ مشاريع التصفيات المتبادلة ما بين أبطالها الموصوفين بالزعامات الخلاصية. وإذا كانت بعض هذه الثورات قد أطاحت بنماذج قصوى من حكام الإستبداد المطلق، إلا أن إعصار الربيع لا يزال باحثاً عن الصنف الآخر من المستبدين المتسلطين، المتوزعين في كل من الجسم الدفاعي من جيش و أمن، أو في الجسم المعرفي، من المتعلمين والخبراء والإداريين ولصوص الأموال العامة. فالإستبداد ليس سلطة وحيدة معلقة هكذا في الفراغ، فإن له أعوانه وحتى منافسيه في المصلحة، منتشرين في معظم الجسم الإجتماعي والدولاني. فالنُظُم الحاكمة، المتعسكرة في معظمها، تلعب دائماً أدوار المشاركين (المضاربين ) مع أمثال هؤلاء الأصناف الآخرين من نشطاء الحياة السياسية والإقتصادية، مثلاً لا يمكن فهم الإنعطافة الراهنة لسلطة العسكرتاريا المصرية دون دعم جذري ومنظم للدولة العميقة وأطيافها الإجتماعية من حولها.
منذ الأيام الأولى لثورة مصر وضعت مؤسسة العسكرتاريا تطورات الأيام التالية على الثورة، تحت هالتها. (فالمجلس العسكري ) حكم مصر ومعها ثورتها في وقت واحد لأكثر من عام. ولم يُسمح للإخوان المسلمين أن يسيطروا على جمهورية مصر إلا كفترة إنتقالية بين عهد المجلس العسكري الذي عجز عن ضبط شوارع الثورة، وبين عودة مظفرة لعين السلطة الفرعونية القديمة، مكللة برايات بطولة الفرد، الزعيم الجديد، الذي منحه قطاعٌ من شارع الثورة نفسه كل التأييد الحماسي المطلوب. ذلك أن الزعيم البطل أنقذ مصر من أدهى استبداد ديني قروسطي، كان مقدّراً له أن يعيد مصر والعالم العربي كله إلى العصر الأظلم من تخلفها وحرمانها من أولى حرياتها الفردية والجماعية. كأنما هي جماهير الثورة التي ترضى أخيراً بتنويع الإستبداد والتنقل بين مستوياته بدلاً من القدرة على نسفه من أساسه.
ما يلاحظه كل مراقب نزيه لمنعطفات الاضطراب العربي الحالي أنه مثلما كانت معارك التحرر الوطني من الإحتلالات الأجنبية لا تكاد تنقطع أخطارها بشكل نهائي، فإن صراعات الإجتماع العربي من أجل الديمقراطية الحقيقية، ستظل مرتهنة بتفجير طاقات لا تزال مجهولة لدى جيل أو أكثر. من قوى الوعي والتصميم والقدرة على التزود من الذات والآخر العالمي بالأمثلة المبتكرة حول ما هو الأحدث والأنجح من أساليب المقاومة الجماهيرية والنخبوية معاً. وقد يكون التغلب على ثنائية الأنتلجاسيا والعسكرتاريا، المتسلطة على فلسفيات التغيير العربي وتنظيماته، مدخلاً لا بديل عنه، نحو إعادة تَبْيئة بذور التغيير في عمق التربة والنشأة الإجتماعية. فالإهرامات العربية لم يتح لها أن تنتج قُمَمَها العالية من ذات صخورها، ولا أن تَشتق سلطاتها من بنية هياكلها العظمية الأولى. وليس مما خلَّفته الثورات الفاشلة السابقة، ممتدة حتى أيام الربيع الراهنة. كان ذلك إمعاناً في عسكرة الإستبداد، كما في عسكرة محاربيه. وبالتالي لن تكون المحصلة سوى استزادة المجتمع ككل من عوامل عزله لقواه الطبيعية عن المشاركة الفعلية في كل ما يُفعل باسمه ما فوق المنابر.
أعداء العرب، هؤلاء المتوجسون أكثر من ثورات الربيع، يضاعفون جهود العسكرة في كل شيء. يتابعون ثقتهم الكاملة في هذه الجيوش العلنية والسرية التي تتطوع تلقائياً/ظاهرياً في فرض حراستها القسرية على شعوبها. فإذا ما أخطأت الحراسة مرة، كانت فوضى الحروب الأهلية بالإنتظار لتتابع المهمة وتنقل العسكرة مباشرة إلى القوى الشعبية الفالتة من عقالها. كأنما بانت أحلام التغيير ممزقة ما بين مركب الإستبداد/الفساد في ظل _ الإستقرار _ أو متناثرة ما بين قبائل التقاتل العبثي في أزمان الفوضى الخلاقة، أي القاتلة بالأحرى.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي