الثورة وفن إسقاط التعالي/ روجيه عوطة
لم تندلع الثورة في سوريا بالتظاهر والكفاح المسلح فحسب، بل إن شوارعها شهدت أفعالاً أخرى، مارسها المنتفضون للإطاحة بالنظام الرمزي لسلطات البعث. من بين تلك الأفعال، يبرز الفن، الذي رافق الحراك الشعبي منذ لحظاته الأولى، معيناً إياه في مواجهة العنف المتواصل ضده.
فبعد عقود من الكبت، الذي فرضه الأسديون على البلاد، انبلجت قوة الناس اللاواعية في التعبير بأشكال ومضامين إبداعية، وصلت إلينا من خلال الإنترنت، لا سيما عبر صفحات “فايسبوك”، التي تخصصت في استقبال ونشر أعمال التشكيل على مرأى الكثير من المستخدمين.
إذ خُلقت تلك اللوحات والصور والتجهيزات لغايات عدة، تتعلق بتشجيع المتلقين على المشاركة في الحدث الثوري، أو بتوثيق وقائعه بأساليب غير مألوفة من قبل، أو بتظهير اللامرئي في المُعاش اليومي. فلو سألنا، على طريقة هايدغر، عن موضوع النظر في فن الثورة السورية، لوقعنا على إجابة مختصرة، لكن، قاطعة: نحن ننظر في الواقع.
حذاء فان غوغ وبوط الأسد
لم يضاعف هذا الفن المسافة بين الناس ومُعاشهم بالاستناد إلى فعل التعالي، بحيث بدا ممارسوه كأنهم يدركون مسألتين أساسيتين. أولها، أن كل ترفع في الإبداع، أكان في الرسم أو التصوير، سيعيقه لوحة أو صورة واحدة، لا يظهر فيها سوى “القائد الخالد”. وثانيها، أن الترفع نفسه لن يولد سوى نمط واحد من المتفرجين، هم، في النتيجة، “مواطنين” خاضعين للسلطة بشكل تام.
ومن الممكن، في هذا المجال، اختصار العلاقة بين التعالي من جهة، والمتفرج من جهة أخرى، في أحد المشاهد الملتقطة خلال واحدة من التظاهرات المناصرة لبشار الأسد. إذ يظهر المؤيد، وعلى رأسه بوط عسكري، مزروع بالورود. فكل عمل “مترفع”، وبالتالي، ذاعن للنظام، يماثل الحذاء “المرفوع” فوق الأجساد والرؤوس. ذاك، أن الأول، يُبعد الناس عن الواقع، ويعطل إدراكهم له والانتفاضة على سلطاته. والثاني، يُغَلِظ هذا الإبعاد، محولاً إياه إلى إقصاء ساحق.
بذلك، ينعقد الرابط بين العمل الفني والنظام الأسدي، فيصبح كل مترفع مرفوعاً، كما يصير الكبت في اللوحة قمعاً في الحياة اليومية. أما المتلقي، فيفقد بصره، لا سيما أن الواقع، الذي، من البديهي أن يتفرج عليه، فليس مرئياً بسبب تزييفه وكبحه. بمعنى آخر، وفي حال المقارنة السريعة بين حذاء فان غوغ، الذي كتب عنه هايدغر، والبوط العسكري، الذي ظهر فوق روؤس المؤيدين، قد تصح الإشارة إلى أن الأول، وبحسبما قال الفيلسوف، بمثابة إنتاج داخل إنتاج، خلق في خلق، أي أنه يشرع العيون على عالمٍ جديدٍ، يلتحم به من دون الانفصال عن نفسه. أما الثاني، فيُغلق على عالم واحد، منقطعاً عن ذاته، ومسلماً إياها إلى معنى أحادي، يعيّنه النظام، وتركزه السلطة.
كما لو أن البوط العسكري قد “ترفع عن” و”رُفع على” الرأس كي يقص القدمين، ويدفن صاحبهما تحت الأرض/الواقع، بعد أن يقلع عينيه، على عكس حذاء فان غوغ، الذي تظهر القدمين داخله حتى بعد انتزاعه منها، كما يحضر منتعله فوق الأرض/الواقع بعيون ثاقبة. على هذا الأساس، يستوي الاختلاف بين العمل الفني، المؤيد للنظام بتعاليه، والآخر، الذي خُلق مع الثورة، ورافقها بالانفتاح على الواقع، أكان من خلال الكشف عنه، أو عبر الاستقرار في تفاصيله.
إمكان الواقع وتكاثره
بهذا المعنى، دخل السوريون إلى الواقع، أو بالأحرى اقتربوا منه ثورياً، وذلك، بأدوات وأساليب تشكيلية مختلفة، عملت على جمعها ونشرها صفحات فايسبوكية كثيرة، كصفحة “الفن والحرية”، و” Syria Art – Syrian Artists”، و”فنون الثورة السورية”، و”فن الثورة السورية”، وغيرها. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفن في سوريا، الذي مثّل إمكان الواقع وجديده، يتقاطع، من ناحية هذا التمثيل، مع الإنترنت، بوصفهما، أي الفن والشبكة العنكبوتية، افتراضاً، يجري اجتيازه كسبيل نحو بلوغ ضرباً من ضروب التواصل والحرية.
دنا الفنانون من واقعهم، متحدين آلات النظام العسكرية والأمنية، التي ما فتئت تقتلهم أو تعتقلهم أو تخفيهم. فمن المعلوم أن النظام اعتقل الرسام يوسف عبدلكي، واعتدى على فنان الكاريكاتور علي فرزات، كما اقتلع حنجرة المغني/الهتّاف ابراهيم قاشوش، إضافة إلى اغتيال الكثير من المخرجين والمصورين. ورغم ذلك، واصل الفنانون التشكيليون، لا سيما الرسامون منهم، معركتهم في وجه السلطات الأسدية، محاولين التعبير عن مُعاشهم، الذين احتكوا به، أو ساهمت أعمالهم، والحدث الثوري، في إماطة اللثام عن مكبوتاته.
وقد تصعب، في هذا السياق، الإحاطة بكل تلك الأعمال، من رسوم وتصويرات وتجهيزات بصرية، وإدراجها في خانة محددة. وبالأصل، لا يمكن فعل ذلك، لأنها، أي الأعمال، متكاثرة من ناحية، ومتفلتة من التبويب التقليدي من ناحية ثانية. كما أن الفنانين التشكيليين، الذين أبدعوها، كانوا على الأغلب يهجسون في علاقاتها مع الثورة، التي من الضروري الوقوف عندها، من أجل النظر في بعض التجارب، والاحتذاء بها كأمثلة على كيفية مقاربة الواقع من باب الفن السوري الجديد.
على جدار الحدث
يلجأ بعض الرسامين إلى نظرة مشهدية عامة، تتيح لهم رسم الواقع ككلٍ، بلا أن تُمحى تفاصيله، بل إن الأخيرة تشكل نقطة ارتكازه ومحركه الإبداعي. فحين رسمت هبة العقاد جداراً سوريا ً، بدا كأنه خليط من الأوراق والجثث والرصاص والأجساد العسكرية، فضلاً عن بقع الدماء الصغيرة، التي انتشرت على السطح، وفوق الألوان المتداخلة. بالتالي، لم تختصر المشهد الثوري، على حيويته وعنفه، بخطوط مقفلة على التعالي، كرسم سماء خالية أو الالتزام بأفق مالس.
على العكس، استطاعت الفنانة أن تظهر الأحداث بتشكيلها الرمزي على سطح، أو جدار مفتوح على العناصر الخارجية، كنقاط الدم، وبصمات الكف، فضلاً عن الصور الشخصية المنسوخة. لقد شرعت العقاد جدارها على عالم شديد الواقعية رغم فنيّته، وذلك، نظراً إلى قوة الحدث الممثل في اللوحة، وإلى أسلوب الكولاج المتبع في تركيبها.
غير أن بعض الفنانين الآخرين، قد لا يحايثون الواقع من خلال جمع عناصره في كلٍ أو على سطح واحد، بل إنهم يصوّرون كل تفصيل كعنصر قائم بذاته، لا يحتاج إلى جمع أو تشميل. هذا، ما تدلّ عليه إحدى لوحات طارق بطيحي، التي تصوّر الطفلة علا جبلاوي متروكة ً على الأرض بجسم مهشم ووجه مغطى بالدم. أما، في البرفورمانس التصويري لابراهيم جوابرة، فيبدو الجسد ملفوفاً بالنايلون، بلا أن نعرف إن كان جثة ً خالصة أو أنه في طور الاختناق. وكي يطالب الفنان هاني شرف بالحرية لجميع المعتقلين، وضع صورة بشار الأسد في قفص، ورسمت نورا الشيخ طفلة ً تصرخ فوق جثة والدها بطريقة شبه تصويرية…
والحال، أن فن الثورة قد مر في الكثير من لحظات التماثل مع الواقع، ولو ظهر هذا المرور بطرق مختلفة. ففي لوحة يوسف عبدلكي، على سبيل المثال، ثمة ضرب من التشابه المباشر بين المرسوم والواقعي، بحيث ينطلق الفنان من التفصيل، مضخماً إياه، كي يصير عنصراً كلياً. أما، في رسوم تمام عزام، فيحضر الواقعي بتركيباته المكانية، التي تنطوي على رسالة من الرفض والإحتجاج. كما يلجأ همام السيد إلى تضخيم الأجساد من أجل استخدامها في حركات سردية، تتحدث عن معاناة الناس، كأن هذه الكتل الجسمية غير مسكونة سوى بالشعور، الذي يرغب الفنان في تمثيله. وفي سياق التماثل عينه، تندرج أعمال وسام الجزائري، الذي يقدم لوحاته الديجيتال، مستنداً إلى وقائع يومية، محولاً إياها إلى تصويراتٍ، تغص بألوان نازعة نحو أحمر الدماء.
بعد ذلك، من الضروري القول إن فن الثورة السورية، التشكيلي منه على وجه الدقة، ما زال في طور الانفتاح على الواقع، ملازماً حراكه وتغيره، ومتخلصاً من تمظهرات التعالي الأخيرة، كإقفال اللوحة على كلية معينة. غير أن هذا التطور يدل على موت فن سابق، أو احتضاره السريع على الأقل، لا سيما أن ركائز النظام الذي كان يحميه ويستفيد منه، قد تصدعت، وبدأت بالإنهيار. فما عاد الفن ترفعاً، بل صار سقوطاً في الواقع، أو صعوداً إليه من الهاوية، وبهذا المعنى، بات كل سوري، يعبّر عن رغباته، ويحررها في التظاهر أو المقاومة، بمثابة فنان بلافتته ولغته وموته أيضاً… أيها السوريون، أنتم فنانو الحرية!
المدن