الثّقافة في مرحلة ما بعد الثّورة
رمضان بن رمضان
هل للمثقّفين المبدعين أن يرسموا لنا، بعد أن تمثّلوا جيدّا خطورة ما أنجزه الشّعب من ثورة عظيمة وهل أنّ استبطان جلالة الحدث ستكون القادح عندهم المفضي إلى المخاض العسير، المفضي بدوره إلى ولادة ثورة في الأدب والشّعر والرّواية والفنّ والفكر، تشكّل قطيعة كبرى مع الماضي الذي عشنا في أحضانه على امتداد عقود بل قرون. ليس كلّ مثقّف/ مبدع في نظري بقادر على الاضطلاع بجسامة هذا الدّور.
صحيح أنّ الثورات تحدث فيما تحدثه إرباكا وتثير مشاعر مضطربة وأحيانا متلاطمة تتأرجح أحيانا بين حنين مرضيّ إلى ماض تعيس بحثا عن اطمئنان زائف وبين خوف من مستقبل غامض لم تتّضح معالمه بعد. فالهزّات الكبرى تخلخلنا وتجعل الكثير منّا في حيرة من أمرهم لا يكادون يصدّقون ما حدث. ويجدون عسرا في استيعاب الأحداث واستتباعاتها. وقد يقتضي ذلك بعض الوقت.
إنّ الواقع الجديد الذي تفرزه الثّورات، كثيرا ما يكون فريسة للسّياسيّ Le politique فيتداعى عليه كما تتداعى الأكلة على قصعتها. وينشب فيه رؤاه وبرامجه، بعد أن يشبعه تحليلا وتجريحا وتشريحا. إنّه لأمر طبيعي أن يستقطب السّياسي الاهتمام لدى الرّأي العام. فيكون حجر الرّحي في رؤية الواقع الجديد وفي إعادة تشكيل المستقبل. ينصب اهتمام الناّس بكلّ شرائحهم على الشّأن العام، وتتهافت الأحزاب السياسيّة وجمعيات المجتمع المدني على الإدلاء بدلوها، كلّ من موقعه، في تشخيص الواقع وتقديم البدائل وتتنافس في ذلك. إنّ الخوف هو أن ترتقي تلك المهمّات إلى درجة “القداسة” بحيث يصبح كلّ من يتقاعس عن الانخراط في تلك “الحمأة”. أو من يطرح ترتيبا آخر في الأولويات مشكوكا في ولائه للثّورة بل قد يحسب على الثّورة المضادّة.
في ظلّ هذا الوضع تضمر الأبعاد الأخرى للثّورة كالبعد الاقتصادي والاجتماعي والثّقافي وغيرها. وحتّى إن تمّ استحضار هذه الأبعاد فإنّها ستظل مرتهنة للبعد السّياسي، أسيرة رؤاه وتصوّراته فيتأجّل في كثير من الأحيان الاشتغال عليها والنّظر فيها فتمنع من طرح بدائلها انطلاقا من قوانينها الدّاخليّة ومن آليات اشتغالها…
ضمن هذا المشهد يقع البعد الثقافي في أدنى سلّم اهتمامات السّياسي، فالأحزاب لا توليه الاهتمام اللازم… ربّما لأنّ الثقافي في جوهره يقع خارج الخطاب الإيديولوجي بالضّرورة وهنا تكمن خطورة الثقافة والمثقّفين.
بعيدا عن التّجاذب بين السّياسي والثّقافي ولا سيما في هذه الفترة الانتقاليّة، هل تحتاج ثورتنا إلى الفكر والثقافة؟
وإذا كان ذلك كذلك فأيّة ثقافة نريد؟ ومن هي الفئات الثقافيّة القادرة على الاضطلاع بهذا الدّور؟
إنّ المثقف في جوهره، ناقد بنّاء يحمل مشروعا مختلفا، ناقد لكلّ أشكال السّلطات بما في ذلك السّلطة السياسيّة القائمة وتعبيرها الإيديولوجي. لأنّه دائما يمتلك رؤى مختلفة متحرّرة من كلّ نزوع للأدلجة والأسطرة Idéologisation et mythologisation إنّ موقعه الطبيعي هو في السّلطة المضادّة من غير انتماء حزبي.
للثّورة وجهان، وجه وجداني، انفعالي تغمره المشاعر الجيّاشة، مصدره النّفس الغضبيّة حسب التّقسيم القديم للأنفس في الفلسفة اليونانيّة والعربيّة الإسلاميّة. ووجه عقلاني فيه رصانة الفكر ورجاحة العقل يكون فيه لأصحاب القلم والفكر دور بارز في الانتقال من الانفعال إلى الوعي ومن الوجدان إلى التأمّل لرسم ملامح المستقبل إنّ المثقفين باعتبارهم فئة ينتمون إلى أوساط اجتماعيّة مختلفة وإلى مشارب فكريّة متنوّعة، عليهم إدراك المرحلة التاريخيّة التي تمرّ بها البلاد، وما تقتضيه من وعي بضرورة تشكيل “طبقة” متقدمّة، لأنّهم مثقفو الكتلة التاريخيّة الجديدة، وعليهم أن يقطعوا مع نمط من الثّقافة كانت تروّج له طبقات زالت أو في طريقها إلى الزّوال لأنّها انتمت إلى كتلة تاريخيّة سابقة. فالثّورة بما هي حدث استشرافيّ، قادرة على صهر شرائح من المثقفين لتصبح متجانسة بفضل وعيها بوظيفتها الخاصّة والمنذورة للقيام بها، حتّى تستطيع رسم الأفق الوليد / الجديد الذي سيكون صدّى صادقا لانتظارات الثّورة في المجال الثقافي.
تحدث الثّورة كسرا وصدعا مباغتا في التّاريخ، إلاّ أنّ العالم القديم لا يمكن أن يموت مرّة واحدة، وبما أنّ العالم الجديد لا يمكن أن يولد دفعة واحدة إلا أنّ الرّغبة الجامحة في إيجاده تظلّ القادح المولّد للأمل دوما. إنّ الجيل الحالي الذي سيشهد هذين العالمين، سيعيش الكثير من التمزّقات النفسيّة والانهيارات الدّاخلية، إنّه جيل العبور والاحتراق2، هذه التمزّقات والآلام هي التي ستكون الرّحم الحاضن للمخاض المولّد للرؤى الجديدة في الثقافة والإبداع. يقول شاتوبريان Chateaubriand (1768-1848) مصوّرا هذه اللحظة وهو الذي عاش ما قبل الثّورة الفرنسيّة وما بعدها :”لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين وقد غطست في المياه المضطربة مبتعدا بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدت وسابحا نحو الشاطئ الآخر المجهول، الذي سوف تصل إليه الأجيال المقبلة، والذي لن أراه بأمّ عيني3.”
على المثقف وهو يعبر من ضفّة إلى أخرى، أن يتموقع –دوما- في ما قبل الإيديولوجيا، وأن يظل حريصا على هذا الموقع، حرصه على بقائه حيّا يرزق، أن يكون مناصرا للحقيقة الموضوعيّة فذاك ما سيشكّل جوهر إبداعه الفكري والفنّي وذاك ما سيجعله أكثر التصاقا بموقعه داخل المجتمع.
إنّ الرّؤية الثقافيّة التي ستنتجها الثّورة، ستكون ترجمانا صادقا للقيم الأصيلة التي قامت من أجلها، ولكنّها بمفعول قانون التأثّر والتّأثير، ستكون الرّافعة التي ستسند الثورة وتزيد في صلابتها وألقها، بأن تمنحها أبعادا جديدة لأنّها ستعمل على قلب الذائقة العامّة وأفق الانتظار رأسا على عقب. إنّ الرّؤية الثقافيّة الجديدة ستكون حتما نقيضا للسّائد الذي كرّس على امتداد عقود “ثقافة” إما تهادن الواقع فتقع في الحياديّة المقيتة وإمّا تدور في فلك السّياسي Le politique فيدجنها ويجيّرها لخدمته.
فالثقافة المنشودة عليها أن تتخلّص من عقليّة الدّعم “المادي” الذي تمنحه الدّولة حتّى تستقلّ نهائيا عن كلّ من يعمل على استقطابها. فاستقلالها المادي شرط لاستقلالها الإبداعي أي لحريّتها المطلقة في ممارسة دورها. فالثقافة ما بعد الثورة جوهرها الحريّة. تلك القيمة التي لئن تنازلت عنها فإنّها لا محالة ستكون قد انحرفت عمّا قدّر لها أن تكون عليه.
إنّ المشروع الثقافي البديل لا بدّ أن تحكمه رؤية فنيّة وجماليّة وكذلك خلفيّة فكريّة مترجرجة، بعيدة عن كلّ خطاب ايديولوجي تعبوي، حتى تنأى بنفسها عن ثقافة البعد الواحد التي ستكرس التنميط والقوالب الجاهزة التي تكلّس الفكر وتفتل الإبداع.
إنّ المشروع الثقافي الذي نطمح إليه، لا يكتفي بالتغني بمآثر الثّورة ولا تستهويه النّزعة التمجيديّة لما حققته الثّورة، بل عليه أن يستلهم قيمها ويؤسّس انطلاقا منها رؤية جديدة للعالم وللكون وللإنسان تكون في قطيعة مع الماضي. إنّ الثّورة بزخمها وبما استطاعت أن تحدثه من تغيّرات في منطقتنا وفي العالم، قادرة على جعلنا نغيّر رؤيتنا لأنفسنا وللأشياء من حولنا، فنكتشف ذواتنا من جديد، ونفجّر مكامن القوّة فينا. فنكون قدوة لشعوب مازالت تتلمس طريقها نحو الحريّة والديمقراطيّة.
الهوامش:
(1)- طاهر لبيب، سوسيولوجيا الثقافة، دار محمد علي الحامي، (صفاقس/تونس) ط.5،1991 ص39.
(2)- هاشم صالح، القطيعة الكبرى أو اللحظة الرومانطقيّة في الأدب والفكر، نشر في موقع الأوان بتاريخ الثلاثاء 5 كانون الثاني/ جانفي 2010.
(3)- ن.م
موقع الآوان