الجامع الأموي الكبير في حلب: مفخرة العمارة الإسلامية مهدد بالدمار
زياد عيتاني ()
مدينة حلب «الشهباء«، التي هي موطن للحضارات الإنسانية المتعاقبة على مر التاريخ، والتي تمثل نموذجاً للمدن الإسلامية بعمارتها عبر العصور منذ عام 16 هجري وحتى اليوم، مروراً بالعصر الأموي والعباسي، بما فيه من فترات حمدانية وسلجوقية وزنكية وأيوبية ومملوكية وعثمانية … هذه المدينة يصح القول فيها أنها متحف للتاريخ والتراث والحضارة، لا بل هي تحفة التحف، وهي باتت الآن عرضة للتدمير المنهجي الكارثي، بفعل الأعمال العسكرية.
فبعد إحتراق وتدمير أجزاء كبيرة من أسواقها التاريخية، ها هو «الجامع الأموي الكبير» يدفع ثمن ضراوة المعارك التي تشهدها ثاني أكبر المدن السورية وأهمها، حيث لحقت بالجامع الأثري أضرار جسيمة وبالغة جراء تدمير وحرق لأقسام مختلفة منه .
مدينة حلب تعتبر من أكثر المدن الإسلامية إحتواءً للمساجد الأثرية الذي يبلغ عددها حوالى ألف مسجد، وهذه الجوامع مبنية بالطراز نفسه تقريباً، ولا يعلوها أكثر من مئذنة واحدة، ويوجد في المقدمة رواق جميل ذو أعمدة تغطيه قباب صغيرة عدة، ويرتفع درجة واحدة عن الباحة، حيث يصلي المسلمون في بعض الأحيان، لا سيما في الفصول الحارة، وتعلق عدة مصابيح بين الأعمدة على قضبان حديد متعامدة تضاء في ليالي الخميس وفي أيام الأعياد… والدخول إلى الجامع يكون عبر باب كبير، وكل ذلك مبني بشكل متين بالحجر «الكلسي«، وتكسى قباب بعض الجوامع بالرصاص وتنتصب المآذن على الطرف الملاصق للجزء الرئيس من الجامع، وفي بعض الأحيان، تكون المآذن مربعة الشكل، إلا أن معظمها مستديرة ورفيعة، أما الشرفة التي يقف فيها المؤذن، فهي ناتئة قليلاً عن العمود الموجود بالقرب من القمة، وتشبه تاجاً غير متقن وبدءاً منها تصبح القمة مستدقة الطرف، وسرعان ما تنتهي بنقطة متوجة بهلال.
ويوجد لكل جامع عادة شخص يؤذن، ويدور ببطء حول شرفة المئذنة ويوجه صوته إلى جميع الأحياء، أما الجامع الكبير ففيه ثلاثة أشخاص يؤذنون في وقت واحد ويقال إن الوليد الذي أصبح خليفة في سنة 86هـ، كان أوّل من بنى أو ألحق المآذن بجميع الجوامع.
ورغم كثرة تلك الجوامع فإن «الجامع الأموي الكبير» أو «جامع النبي زكريا « هو أهم مساجد حلب نظراً لسعته، ولما ينطوي عليه من دلالات تاريخية وحضارية، فضلاً عما يجسده من طراز معماري بالغ الروعة والجمال .
يقع «الجامع الكبير» في منطقة الأسواق غربي قلعة حلب، وقد بناه الأمويون، عام 97هـ /715م، وتم تشييده وفق مخطط «مسجد دمشق الأموي»، فكان كما وصفه المؤرخون نسخة عنه، يضارعه بمساحته وأبعاده، لكنه لا يضارعه في فخامته وروعته، ويقال إن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في «جامع دمشق«،
وهو مستطيل الشكل، طوله من الشرق إلى الغرب 105 أمتار، وعرضه 75،77 متراً من الجنوب إلى الشمال، ويبدو نسخة من «شقيقه الأكبر« في دمشق.
حافظ المسجد على بهائه وروعته حتى عام 115 هـ /962م حين أحرقه الإمبراطور البيزنطي نقفور فوكاس، بعد أن احتل حلب وأحرقها وأحرق جامعها ورحل عنها، ثم جدد بناءه بعد ذلك سيف الدولة الحمداني.
وفي عهد نور الدين الزنكي احترق المسجد عام 564 هـ /1168م فقام نور الدين بإعادة عمارته وترميمه حسب مخططه الأصلي، بعد ان أضاف الى الحرم أرضاً تجارية مجاورة، زادت في مساحته ووضع له محراباً من الخشب الثمين المزين بالعاج والأبنوس. وفي عام 679 هـ /1276م أحرقه صاحب سيس، ثم جدده وعمره قرا سنقر، نائب حلب، وجرت إصلاحات وترميمات في عهد السلطان الملك الظاهر، وقد أشار المؤرخون إلى سلسلة التجديدات وإعادة البناء والترميمات التي تمت في الجامع.
ولم يستقر شأن الجامع حتى عهد العثمانيين وإن كان أيضاً قد تعرض لسلسلة زلازل ضربت مدينة حلب، أحدها أضّر بمئذنته المربعة في الزاوية الشمالية الغربية من صحنه، طول ضلعها خمسة أمتار تقريباً، وارتفاعها خمسة وأربعون متراً حتى شرفة الأذان صعوداً بـ 174 درجة حجرية، وهي بشكلها المربع وارتفاعها وزخرفتها تذكر بمئذنتي إشبيلية وقرطبة في الاندلس.
وبعد ترميم الجامع الأموي بدمشق، تم ترميم جامع حلب الكبير، بحيث أعيد للجامعين رونقهما الحضاري.
للجامع أربعة أبواب: الباب الجنوبي ويسمّى باب النحاسين، والباب الشرقي ويعرف بباب سوق الطيبية والباب الشمالي ويسمى باب الجراكسة، والباب الغربي ويسمى بالمساميرية.
يبلغ صحن الجامع، أي ساحته الداخلية، 79متراً طولياً وبعرض 47 متراً، أرضيتهُ مبلطة بالأحجار الصفر والسود المصقولة تتناوب مع الحجر المرمري الأبيض والسماقي، وتنتصف في جهاته الشمالية والشرقية والغربية ثلاثة أروقة محمولة على دعائم حجرية ضخمة، ويضم صحن الجامع حوضاً سداسي الشكل للوضوء، تحت قبة ارتفعت على أعمدة رخامية صفراء، وهو تجديد للحوض القديم تم عام 1302 هجرية ¬-1885م، وإلى الطرف الجنوبي سبيل ماء مع بحرة متصلة به بقبة مخروطية من صفائح الرصاص على أعمدة مضلعة.
وفي الصحن أيضاً مصطبة حجرية ترتفع إلى نحو المتر، بطول يقارب الخمسة أمتار وبعرض 50،3م، وكان المؤذنون والمنشدون يعتلونها في صلوات الجمعة وفي الاحتفالات الدينية، لاسيما في عيد المولد النبوي.
وفي الصحن… مزولة لحساب أوقات الصلاة ظهراً وعصراً، صنعها الفنان عبد الحميد دده بن عمر الحلبي عام 1300 هجرية، الموافق لـ 1883م، تغطيها طاسة نحاسية وهي مقفلة اليوم بعد شيوع آلات التوقيت.
وتضم قبلية الجامع ثلاثة محاريب، الاوسط: وهو أوسعها والأيمن غربه والأيسر في شرق الاوسط مع حجرة للخطيب.
أما الحجرة النبوية فتقع إلى يسار المحراب على هيئة غرفة مربعة كسيت جدرانها بالقيشاني، والآراء متضاربة على دفين تلك الحجرة، فإما أنها تتضمن رأس النبي يحيى بن زكريا، أو حسب آخرين رفات النبي زكريا نفسه، وفي الجامع ثلاث مقصورات بقيت منها اثنتان: مقصورة الوالي مقصورة القاضي إلى عهد العلامة الشيخ الغزي، ثم زالت جميعها مع مقصورة قراسنقر، وترقى اثنتان منها إلى العصر المملوكي بينما الثالثة عثمانية.
وثمة سدّة ومقصورات أخرى، لكن الأهم هو منبر المحراب الأوسط. وهو من أقدم المنابر حلبية الصنعة والفن، بعد إحراق المنبر الحلبي في بيت المقدس عام 1969م.
يرتفع المنبر إلى علو 57،3 حتى قاعدة القبلية ويمتد باتجاهها لمسافة أربعة أمتار تقريباً، بينما يبلغ عرضه متراً وثمانية سنتمرات بعشر درجات حتى مجلس الخطيب، وهو مصنوع من الأرز والأبنوس المرصعين بالعاج والصدف.
وكان السلطان نور الدين الزنكي قد أمر ببناء منبر للجامع الأموي في حلب فأنشأه اثنان هما سلمان بن معالي وحميد بن ظافر الحلبي وانتهيا من صنعه عام 564هـ، 1168م، ثم نقله السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى القدس لينصب في المسجد الأقصى.
أما المنبر الحالي للجامع فتم إنشاؤه أيام السلطان الملك الناصر محمد وصانعه محمد بن علي الموصلي، وهو غير المنبر الذي صنعه الأختريني.
وتقوم المئذنة في الجهة الشمالية الغربية من الجامع، وتعد من أجمل المآذن التي خلفتها العمارة الإسلامية، بنيت في العصر السلجوقي، بناها قيّم الدولة آق سنقر جد نور الدين، وهي مربعة الشكل ترتفع حوالي 45 متراً، وقد طوقت بأربعة مستويات يحمل كل منها زخارف مختلفة، وزينت المئذنة بكتابات مهمة فالطوق ذو الأدوار الأربعة حول بدن المئذنة هو من الخط الكوفي، وتعد هذه الكتابة من روائع الفن المعماري والزخرفي في الفن الإسلامي، أما الطبقة الوسطى فقد أحيطت بشريط زخرفي كتب بالخط الثلث.
والكتابات الموجودة على مئذنة الجامع تلقي الضوء على تاريخ تجديد المئذنة بعد أن أصابها الخراب..
مع إستمرار المعارك الضارية في أرجاء مدينة حلب القديمة، فإن الكثير من معالمها وإرثها التاريخي والتراثي إما قد لحقت بها أضراراً بالغة أو دمرت وأحرقت بالكامل و لا يمكن إصلاحها أو ترميمها، او أن هناك خشية حقيقية وجدية من أن تطال أعمال العنف المستمرة ما تبقى من معالمها ومبانيها ومواقعها القديمة الشاهدة على الماضي العريق وعلى هويتها المهددة والتي تمتلك تاريخاً يزيد عمره عن 5000 عام، عجزت كل الغزوات والزلازل من إندثارها .
ويبقى السؤال: هل تبقى حلب الشهباء عصية وأقوى من آلة التدمير والخراب هذه المرة أيضاً؟ أم أن جنون المعارك وشراستها تتمكن النيل منها؟
() إعلامي وباحث بالتراث الشعبي
المستقبل