الجدار شاهداً/ عبد الوهاب عزاوي
يداهمني حنينٌ عندما أتذكر حرب الجدران، حرب الحلم والطمس “الوردية”، الجارية على جدران مدينتي ديرالزور في زمن يبدو الآن بعيداً جداً، كان الحراك فيه سلمياً محمّلاً بآمالٍ طريّة وواثقة.
إنها حرب تبدو من هذا البعد أقرب إلى الغزل رغم وقوع عدد من الشهداء بين المتظاهرين. وقتها كان لنا أن نسير في شوارع المدينة مستحضرين أرواح شهدائنا بما يشبه النوستالجيا، نزيّن أرواحهم بأصواتنا، نهتف بأرجوزات ميتٍ قبلنا (إبراهيم القاشوش)، دخل التاريخ بموته، لأن الأخير لا يتسع للأحياء.
شوارع خاصة بالتظاهر، أو باتحاد عدد كبير من المظاهرات، شارع الجبيلة بالتحديد، وشوارع أخرى قريبة، كانت تغيّر ألوانها كل حين. جدران بكامل أنوثتها انتقلت من الكمّوني الوسخ ما قبل الانتفاضة إلى ألوان الشعارات الضاجّة، لتُدهَن بعدها بالأبيض صباحاً، فتعود الكتابات بالأسود مساءً. وبعد أن دُهن بعضها بالأسود عادت الكتابات بالأبيض.
جدران تركت دورها كحواجز لتمسي حوامل للحلم، سهولَ كرٍّ وفرٍّ بين حالمٍ وجلاد، أرضاً للرقص واللعب. أجل كان الأمر بالنسبة لي يشبه اللعب، لعباً بريئاً يكثّف حلم الناس بالحرية بعيداً عن التجييش الطائفي؛ لعباً لم تتحمله الدكتاتورية المتجهّمة. أمست الجدران وسيلةً لكسر الحواجز بدلاً من أن تكون الحواجز ذاتها مكاناً يحفظ أسماء شهدائنا التي سننساها كما نسينا أصحابها، لكثرتهم، أو لعدم قدرتنا على تحمل المزيد من الأسى. الجدران إناثٌ صبوراتٌ وفيّاتٌ..
أحبُّ تلك الجدران إلى قلبي سور مدرسة العرفي. جدار تلوّن عدة مرات، لكن على مهلٍ، وهنا اللذة. لم يكن التغيير فيه حاداً بل كان متناوباً، ولعل السبب أنه يقع في شارع تظاهر يومي، لكنه شارع عبور سريع نحو التجمع في نقاطٍ أخرى؛ شارع وصل بين حلمين، وصلٍ سريعٍ لا تمهّل فيه، وشارع اشتباكات في مرحلة معينة. بمعنى آخر كان شارع توتر لأنه لم يكن محمياً بأبناء البلد آنذاك، ولإمكانية وصول الشبيحة إليه.
المغري في ذاك الجدار أنه يجمع أطواراً عدة، أوّلها أساس الأبيض الذي وضعه النظام، أبيض نقي يغري للكتابة فعلاً، كتابةٍ مختلفة. ثم أزرق وأحمر وأخضر، أرقامٌ وبقايا كلماتٍ مطموسة، ولون ترابي يجمع المتفرقات، ترابٌ نازفٌ تراباً، وخطوطٌ سوداء باترةٌ، ملوية بحدة على عجل.
كثيراً ما كنت أتورط في إغراء عدد من الأسئلة، مثل: إلى من يمكننا أن ننسب هذا العمل “الفني”؟ إلى متظاهرٍ مجهولٍ أم عنصر أمن له النصيب الأكبر في العمل؟ إلى مشروع قتيل أم مشروع قاتل؟ أين تكمن قوة العمل؟ في الكلام الممحو البادي كأمل ٍ مسعور أم في الطمس غير المكتمل؟ وما عدد المشاركين في العمل؟ هل كان المتظاهر يستمتع مثلي بالألوان؟ ما الذي كتبه على الجدار؟ هل كان ينتقي كلماتٍ معينة احتفاءً به؟ ما مصيره؟ هل بات مقاتلاً أم لاجئاً أم منفياً.. أم شهيداً آخر اسمه على الجدار؟ هل يراوده ذات الحنين لذات الجدار؟
وثمة أسئلة مشابهة تخصّ عنصر الأمن: هل كان يتأمل العمل وهو يمسك بفرشاته العريضة التي تشوه حلم الآخر، نزقه، وكبرياءه، وتدمج بين الكلمات؟ الطمس يساوي بين الحالمِين، يوزّع الغياب بتساوٍ. لا أعرف لماذا ينتابني إحساسٌ إيجابي نحو هذا العنصر رغم حقدي على أجهزة الأمن، رغبةً في اعتباره ضحية أخرى للدكتاتورية أكثر منه جلاداً. هل كان يفكر في الانشقاق مثلاً وهو يضرب بفرشاته؟ هل قُتل قبل أن ينشق؟ أم هل كان قاتلاً بارد الدم، أم كان مجرد فقيرٍ آخر يبحث عن عملٍ، وكان يدهن الجدار بمللٍ شديد، أو بتعاطفٍ ضمني مع الشعارات وكاتبيها؟
هل اللوحات وليدة الصدفة فقط؟ وليدة الاستعجال؟ بكل الأحوال، كيف لنا أن نصنف هذا الفن؟ إنه حالة مشوّهة وملتبسة وجميلة مثل سوريا ذاتها. إنه مد وجزر بين قوتين صلبتين حد الإفناء، جمالٌ زائلٌ تحت وطأة العنف. فقد دمر قصف النظام المدرسة، بحسب ما علمتُ، دمر صفوفها وأبنيتها. ولا أعلم إن بقي شيءٌ من السور شاهداً ـ وسط هذا العبث والدمار المروع في المنطقة ـ على زمنٍ جميلٍ بكمونٍ نحو نضج الحراك وإنتاج مشروعٍ لانتقال سلمي نحو الديمقراطية؛ زمنٍ حمل شبابه الثائرون بذور وعيٍ لم تنْمُ كما كنا نحلم.. شاهداً على حلم شعبٍ آلَ إلى الدمار.
* شاعر من سوريا
العربي الجديد