صفحات سوريةغازي دحمان

الجغرافيا إذ تصنع أقدارنا/ غازي دحمان

 

 

غالباً ما أدرجت الكتابات العربية، الأحداث التي تشهدها المنطقة، في سياق ما يسمى بمؤامرة دولية تخطط لتقسيم المنطقة وإعادة قولبتها من جديد، بذريعة أن المصالح الدولية والتسويات المطلوبة في خضمها تتطلب مثل هذا الإجراء، وذلك في محاولة للتكيف مع المتغيرات الحاصلة في بنية النظام الدولي وتوجهاته، فليس من المصادفة أن تقف مجموعة من الدول العربية (سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان) على طابور التقسيم، وتتعرض للانهيار الكياني من دون رحمة، إن لم يكن هذا بفعل مؤامرة كبرى، فماذا يكون؟.

لا يمكن محاكمة القوى الفاعلة في العالم على استراتيجياتها وانطلاقا من قناعاتنا، فدائما وفي كل الحقب التاريخية كانت هناك مصالح وطموحات دولية. والمعلوم أن المناطق الأكثر اشتهاء وإمكانية لتحقيق مطامع الدول، تلك التي تقع في الفراغ، او التي تكون عديمة القوى والحيلة، وتصبح مناطق جاذبة للتدخلات الدولية، التي تبدأ بذريعة وجود الفوضى فيها، والرغبة في ضبط وتقليل درجة تأثير أوضاعها على السلم والأمن الإقليمي والدولي، وتنتهي بوضعها تحت الوصاية الخارجية، التي غالبا ما تؤدي إلى إعادة صياغة جغرافيتها وديمغرافيتها، على نحو جديد ومختلف.

ذلك واحد من أهم دروس التاريخ في سياسات الدول، هل ثمة من تعلمه في منطقتنا؟ الواقع يقول إن النخب السياسية التي تسلطت على الحكم في بلداننا هيأت الأوضاع العملية للوصول إلى حالة التردي والانهيار، التي وصلت لها كيانات المنطقة، ذلك أن فشلها في إدارة الثروات وطريقتها في ضبط عمليات الصراع الاجتماعي، كانت على سوية من السوء بحيث أدت إلى تلك المخارج الكارثية. وقبل أعوام كتب الأمريكي روبرت كابلان عن انتقام الجغرافية، وقال حينها أن تلك المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي ستنتهي إلى التفتت والتقسيم، وسيجري إستلحاقها بالكيانات المجاورة، وأرجع أسباب ذلك بالدرجة الأولى إلى فشل الأنظمة السياسية، التي تعاقبت على الحكم فيها، وبخاصة سوريا والعراق، في إدارة عملية تنموية ناجحة، وتدعيم النسيج الوطني بدرجة كافيه تمنح تلك الكيانات الحد الأدنى من المناعة، في مواجهة ما قد يعترضها من أزمات.

لم تكن تلك نبوءة، وليست قدرا محتوما، بقدر ما هي قراءة في سياق من الفشل، وصل في النهاية إلى خواتيم معلومة، فالحقيقة التي يحاول الكثير رفضها باتت مجسدة بدرجة كبيرة على أرض الواقع، ثمة من يرفض جرح نوستاليجياه الوطنية، ويصر على إغماض عينيه على الوقائع التي باتت تتشكل بصلابة، وصار لها حدود وتخوم ومراكز، ولكن ماذا يفيد ذلك بغير إطالة الأزمة وتركها تكمل مسارها الكارثي، مقابل حالة الجدب في المعالجات والمقاربات المنطقية، وسوى الأفكار العدمية وأبطال الطوائف لا شيء آخر يمكن لمح أثره في المكان، اللهم سوى رهانات عدمية بإفناء الأخر أو إخضاعه، وهي ليست سوى عدة الأزمة وأدواتها.

في سوريا يتشكل التقسيم بشكل ثابت وواضح، ويبدو أن الأطراف قبلت بهذه المعادلة، القضية تتعلق بتعديلات هنا وهناك على خطوط التقسيم وشكل الجغرافيا ومدى تواصلها وترابطها، وكذا فيما يخص المعابر والتخوم مع الجوار، وفي العراق تبدو الصورة أوضح والصراع يجري حول تثبيتها وإقرارها بشكل نهائي. وبطريقة أوضح بات الصراع يرتكز بدرجة كبيرة على المحاصصة في الثروات وتحصيل ما أمكن من عناصر القوة الاقتصادية في هذا المقلب او ذلك، وتلك مسائل ستحسمها قوة كل طرف وقدرته على التضحية أكثر وامتلاكه لأسباب القوة راهنا.

على ذلك، يقف الجميع على عتبة التسويات الكبرى، ومعها ينتظر الجميع ولادة شكل رسمي جديد للهندسة السياسية للمنطقة، ذلك يعني أن الخرائط الجيوسياسية الأصلية للمنطقة لم تعد قابلة للاستمرار، حتى أن إمكانية إقرار نظام فيدرالي، يتيح للمكونات إدارة مناطقهم صارت أمرا بعيد المنال، وفي ذلك انعكاس كبير لحجم الشقاق الحاصل داخل ما كان يسمى بالإطار الوطني السابق، لكنه أيضا يكشف مدى ضعف الحال على مستوى المبادرات السياسية والاجتماعية للمكون الوطني، مع ضرورة عدم الخلط بين الفئة القاهرة والمستبدة والفئة التي جرت الكارثة على جسدها، وجرى إغلاق كل منافذ الخلاص بوجهها وتحديد خياراتها بين الموت انتقاما أو الرضوخ للقهر والانكسار.

هل ثمة إمكانية للانقلاب على هذا الواقع، للخروج من هذا المسار القاتل للجغرافية والبشر؟ هل ثمة إمكانية للحفاظ على استمرارية الكيانات الموجودة من خلال إعادة بناء الدولة الاندماجية التي تحفظ لمختلف الهويات حقوقها ضمن النسيج الوطني المشترك؟ من العدمية الاستسلام لهذا الواقع، فثمة دول كثيرة مرّت بتجارب مماثلة لكنها استمرت ودملت جراحها، فلماذا لا يحصل مثل هذا الأمر في سوريا والعراق؟، هل نخضع لمقتضيات المشروع الإيراني التفتيتي ونستسلم لقدره الحتمي؟، هذا السؤال يوجه بدرجة كبيرة الى البيئة الحاضنة لأنظمة سوريا والعراق، التي استرهنت بلدانها وديعة لهذا المشروع.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى