صفحات العالم

الجميّل ــ أردوغان: من الأسد الأب إلــى الأسد الابن


نقولا ناصيف

حلّ الرئيس أمين الجميّل ضيفاً مميّزاً على مؤتمر اسطنبول، بصفتيه السياسية والمسيحية. السياسي الوحيد مع أبي الثورة التونسية راشد غنوشي بين ممثلي 40 دولة من مرجعيات دينية وأكاديمية. كان والمضيف رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان المتحدّثين الوحيدين في الافتتاح.

في اجتماع منفرد، استمر ساعة، ضمّ الرئيس أمين الجميّل ورئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان في 8 أيلول، على هامش مؤتمر «الربيع العربي والسلام في الشرق الأوسط» في اسطنبول، تذكّر كل منهما علاقته بالرئيس السوري: الجميّل عرف الرئيس حافظ الأسد، وأردوغان عرف الرئيس بشّار الأسد.

لكليهما تجربة مخيّبة مع الرئيسين، الأب والابن، وتأثيرها على حقبة وجودهما في الحكم في لبنان وتركيا، وعلاقة بلديهما بسوريا. كان هذا التقاطع كفيلاً بأن يستعيد الجميّل وأردوغان إخفاق تفاهمهما مع الأب والابن. مرّت ولاية الجميّل في ظلّ نفوذ الأسد الأب على لبنان وتحكمه باستقراره، في حين لا يزال أردوغان في الحكم منذ عام 2003 وشهد ـــ حتى انفجار الأزمة السورية قبل سنة ونصف سنة ـــ تطوراً غير مسبوق في العلاقات التركية ـــ السورية أوحت بنموذج مثالي لبلدين متجاورين أزالا الكثير من الحواجز التاريخية والحدودية والاقتصادية والسياسية، قبل أن يمسيا أخيراً عدوّين.

لم يعرف أردوغان الأسد الأب. إلا أن الصورة التي كوّنها عن خلفه شبيهة بالتي تحدّث عنها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بأن الأسد الابن سينقل سوريا من حقبة إلى أخرى. في ظلّ أحداث سوريا، قبل أكثر من سنة، قال الأسد لأردوغان إنه لن يُقدم على ما فعله أبوه في حماه، ولن يتسبّب بمجزرة ثانية، ولن يحكم بالطريقة التي حكم بها الرئيس الراحل. بدوره، الجميّل لم يعرف الأسد الابن. لكن ما حدث في سوريا ولا يزال يجعله متيقناً من أن الابن على صورة أبيه.

استأثرت الأزمة السورية بقسط وافر من اجتماع الجميّل وأردوغان اللذين تبادلا تجربتيهما مع النظام السوري. روى الجميّل أن القمم المتعدّدة التي عقدها مع الأسد الأب لم تكن نتائجها تطابق الواقع. ما إن يُغادر دمشق ويعود إلى بيروت حتى ينفجر الوضع الأمني في لبنان ليطيح كل ما كانا قد اتفقا عليه، أو بدا ذلك للرئيس اللبناني، فأمست ولايته تحت وطأة التهديد السوري المستمر.

قال أيضاً: لا أحد في لبنان اختبر سوريا مقدار ما شهدته في أثناء ولايتي.

بدوره، أردوغان قال أمام ضيفه: وعدنا الأسد بالكثير وبكل شيء. قال إنه سيقوم بالإصلاح، ولن يستخدم القوة، ولن يُقدم على حماه جديدة. لكنه لم ينفذ كل ما تعهّد به. لم يحترم وعوده حتى. لم يقل لنا إن هناك ضغوطاً عليه تحول دون تنفيذها، ولم يُفصح عن أي سبب يعوق مقدرته على تنفيذها. لم يصدق أبداً.

لم يتردّد رئيس الوزراء التركي في استخدام كلمة «كذب». لم يتأخر كذلك ـــ في غضب لم يكتمه ـــ في إبراز المشكلة بينه وبين الرئيس السوري على أنها شخصية، بعدما استفاض في الكلام على تطور علاقتهما في مرحلة سابقة، واتسامها بطابع عائلي وخاص.

قال أردوغان إنه فقد الأمل في التفاهم مع الأسد. ولاحظ في اللقاءات التي كان يعقدها معه أنه يسترسل في الكلام بلا توقف، ولا يفسح في المجال لسواه. ويبدو أنه مأخوذ بكل ما كان يقوله. لم يتكلم معنا عن وعود فقط، بل عن تدابير لم يتحقق منها شيء.

لكن رئيس الوزراء التركي أكد لضيفه أن سوريا عنصر مؤثر في استراتيجية بلاده في المنطقة واستقرارها. ضحّى في سبيل تسهيل التفاهم مع الأسد، إلا أنه مُني بخيبة أمل كبيرة.

في حصيلة تبادلهما تقويم الوضع في سوريا، أبرَزَ الجميّل وأردوغان الآتي:

1 ــ لا يستطيع الأسد الاستمرار في السلطة بعد الخراب الهائل الذي ضرب بلاده، ولم يعد في وسعه بعد الآن ترؤس سوريا موحدة ومستقرة، فضلاً عن اهتراء عام على كل الصعد أنهك النظام والجيش معاً.

2 ــ لا عودة بسوريا إلى الوراء تحت وطأة القيود الداخلية والدولية التي بدأت تطبق على نظام الأسد. مع ذلك، فإن الإمكانات والقدرات التي كوّنها على مرّ عقود مكّنته من مواجهة الوضع الراهن. منذ الرئيس الأب، تحضّر لأحداث كهذه كان نموذجها الأقوى أحداث حماه، فساعدته على الاستمرار. ورغم كل الدعم الذي وفره الغرب للمعارضة في الأشهر الأخيرة لخوض معركة إسقاطه، لا يزال النظام صامداً.

3 ــ التقى الجميّل وأردوغان على أن نظام الأسد انتهى، وتمايزا في طريقة تعاطي كل منهما مع الاهتراء الذي يضربه: يعتقد الرئيس اللبناني السابق بأن النظام ليس راحلاً غداً بالسرعة التي يُرجّحها أعداؤه، نظراً إلى الأسباب التي تبرز مقوّمات استمراره وعناصر قوته، ويتحدّث رئيس الوزراء التركي عن مرحلة ما بعد الأسد قبل أن يرحل. وهي حال كثيرين يقاربون الموضوع: الاستعداد لرحيل رئيس ونظام لا يوحيان بالرحيل بالعجلة المتوقعة.

4 ــ لا يزال الفيتو الروسي والصيني يحول دون اتخاذ مجلس الأمن قراراً بالتدخّل العسكري. إلا أن الدول الغربية والولايات المتحدة غير مستعدة لتجاوز المجلس خلافاً لما كان قد حصل في ليبيا رغم إمكاناتها العسكرية المتواضعة. ليست هذه حال سوريا التي تملك قدرات عسكرية كبيرة تجعل من أي مغامرة عسكرية مكلفة، وخصوصاً أن الدفاعات الجوية السورية متطوّرة ومجهّزة لخوض الحرب مع إسرائيل. أي عمل عسكري خارجي، إذاً، لن يكون أبداً نزهة ما لم يأخذ في الحسبان هذه المعطيات.

لم تقتصر لقاءات الجميّل على أردوغان. اجتمع أيضاً بوزير الخارجية أحمد داود أوغلو، ثم بفريق عمله. في خلاصة انطباعات كوّنها عن مجمل ما باح به المسؤولون الأتراك، استخلص الجميّل ملاحظات منها:

ــ لا تدخّل عسكرياً تركياً أحادياً في سوريا.

ــ لم ترَ أنقرة في إسقاط سوريا إحدى طائرتها عندما اخترقت المجال الجوي السوري تصرّفاً بريئاً. كلاهما لم يكن بريئاً أبداً: أرادت تركيا بإرسال الطائرة اختبار الدفاعات الجوية السورية وجدّية ردود فعلها، وأرادت سوريا بإسقاطها تأكيد جهوزية هذه الدفاعات واستعدادها التصدي لاختراق مجالها الجوي. هكذا كانت الرسالة مزدوجة من الطرفين معاً. استفزّت أنقرة دمشق، فردّت بعدم تجاهلها.

ــ لم يكن إسقاط طائرة الميغ وطوافات سورية في الأسابيع الأخيرة بريئاً بدوره. ولم تكن تركيا بعيدة عن قصفها وإسقاطها، في ردّ غير مباشر على إسقاط طائرتها قبل أشهر. حتى ذلك الوقت، كان ينقص المعارضة السورية أسلحة مضادة للطائرات وخبرة يلمّ بها الأتراك الذين كانوا في حاجة إلى الردّ على الدرس بآخر مماثل.

ــ لم يعد النزاع المسلح في سوريا إقليمياً، بل أضحى جزءاً من لعبة دولية تجاوزت تركيا بعد تدويل هذا النزاع. بالتأكيد، لا تزال أنقرة تمثّل البوابة الرئيسية للمعارضة السورية في ظل إيصاد بوابات الدول المجاورة لها: العراق الحليف لإيران يدعم نظام الأسد. والأردن يتصرّف بارتباك وخجل حيال مساندة المعارضة، وبحذر خشية انتقال القلاقل والحوادث الحدودية مع سوريا إلى داخل أراضيه، على نحو مشابه لوضع لبنان المرتبك بدوره. لم يبقَ أمام المعارضة سوى تركيا التي تمدّها بالأعتدة، وتؤمن لها خطوط إمداد وحرية تنقّل.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى