الجيوبوليتيك السياسي للاضطرابات العربية
إيمانويل والرشتاين
في عام 1822، أرسل وزير خارجية بريطانيا العظمى، جورج كانينغ، مذكرة إلى رئيس حكومته، دوق ولينغتون، وضع فيها المبدأ الأساسي الواجب اتباعه في السياسة الخارجية لبريطانيا حسب رأيه: “[علينا ألا نقيم أي وزنٍ] لرغبات أية حكومة أخرى أو لمصالح أي شعب آخر إلا بالقدر الذي تتفق فيه تلك الرغبات وتلك المشاعر وتلك المصالح مع مصالح بريطانيا”.
في ذلك الوقت، كانت بريطانيا العظمى القوة المهيمنة في النظام العالمي، وتمكنت إلى حدٍ كبيرٍ جدًّا من فرض رغباتها على بقية العالم.
اليوم، هناك اضطراب كبير في الدول العربية. وبينما يتطور هذا الاضطراب، هناك عدد كبير من البلدان التي تسعى لتحقيق مصالحها في المنطقة. المشكلة الأساسية هي أنه لا توجد قوة مهيمنة الآن، وبالتالي هناك قدرٌ كبيرٌ من الجعجعة، ولكن الأطراف الجيوسياسية المتعددة مترددة وغير فعالة على حدٍّ سواء. فهم يتحدثون أكثر بكثير مما يعملون.
يتركز قدر كبير من الاهتمام الجيوسياسي على سوريا، حيث يتصارع النظام ومعارضوه الداخليون أكثر فأكثر منذ وقت. أما مَن يحارب مَن؟ ولأي سبب؟ فهي مسألة تختلف فيها رواية كل طرف عن الآخر اختلافًا كليًّا. والحكومة السورية تعارض أي تدخل خارجي في صراعات سوريا الداخلية، بينما لا تكف المعارضة عن المطالبة بمثل هذا التدخل الخارجي، إلى جانبها، طبعًا.
لقد دعت الولايات المتحدة، القوةُ المهيمنة سابقًا، الرئيسَ بشار الأسد للتنحي وطالبت بقيام نظامٍ تعده الولايات المتحدة أكثر تمثيلاً للشعب السوري. بالإضافة إلى ذلك دعت الحكومةَ إلى وقف عملياتها العسكرية الداخلية ضد المعارضة.
كما سعت، دون جدوى، للحصول على قرارات داعمة من مجلس الأمن الدولي. وفرضت على سوريا عقوبات اقتصادية أحادية الجانب. وقالت إنها ستوفر المساعدات الإنسانية للسوريين داخل البلاد وخارجها. وتتشاور بشكل دوري مع القوى الأخرى بشأن كيفية المضي قُدُمًا.
ما لم تقم به هو الانخراط في العمل العسكري المباشر في سوريا، لا منفردةً ولا بالاشتراك مع البلدان الأخرى. وفي الآونة الأخيرة، قال وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا في مقابلة مع وكالة أسوشيتد برس: إنه على الرغم من الدعوات المستمرة لفرض “منطقة حظر للطيران” فوق سوريا، فإن مثل هذه الخطط “لا تحتل مكان الصدارة”، وأن عملاً كهذا يتطلب “قرارًا سياسيًا كبيرًا وكبيرًا جدًا”.
يبدو أن هناك أسبابًا مختلفة لهذا الأمر؛ فهو لن يحظى بشرعية قرارٍ من مجلس الأمن، كما في ليبيا، أو على الأقل كما ادَّعت قوى الناتو أن القرار أعطاها.
ومن المؤكد أن الولايات المتحدة انخرطت في عمل عسكري في العراق عام 2003 على الرغم من عدم حصولها على قرار مشابه من الأمم المتحدة. ولكن -وهذا هو التفسير الثاني- يبدو أن الكثيرين يشعرون بأن التدخل في العراق لم يكن بذلك النجاح المطلوب، وهناك مخاوف من تكرار العواقب السلبية لهذا التدخل.
التفسير الثالث: هو أن كبار ضباط الجيش الأميركي يعتقدون أن لديهم سلفًا من الأعباء في الشرق الأوسط بما يفوق طاقتهم، وأن الجيش السوري أقدر على مقاومة التدخل الخارجي مما أبداه جيش القذافي.
أما التفسير الرابع فيمكن تلخيصه بقولنا: إن الشعب الأميركي قد سئم الحروب؛ فوفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، ترى غالبية الأميركيين الآن أن التدخل الأميركي في كلٍّ من أفغانستان والعراق كان خطأً يجب ألاَّ يتكرر.
ولعل التفسير الخامس هو أنه رغم أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى النظام البعثي بعين الود، إلا أنها تُراودها شكوكٌ جدية، وربما تحفظاتٌ شديدة، حول ما يمكن أن يحدث في سوريا في حال سقوط نظام البعث؛ فهي تقلق من احتمال تمكن تنظيم مماثل للقاعدة من الحصول على قدر كبير من السلطة في سوريا ما بعد البعث.
كما أنها تعتقد أنه قد يكون هناك صراع على السلطة بين الفصائل التي من شأنها أن تخلق حالة مماثلة لما حدث في أفغانستان بعد سقوط النظام الشيوعي في عام 1992. قد يتراجع العلويون من أنصار النظام الحالي إلى منشئهم الجبلي ليواصلوا القتال من هناك. ويبدو أيضًا أن هناك خوفًا من تعرض الأقليات (بمن في ذلك المسيحيون) للاضطهاد من قبل النظام الذي سيخلف النظام القائم.
باختصار، تسعى الولايات المتحدة بالفعل لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. ولكنْ هناك نقاشٌ واسع في الولايات المتحدة حول ماهية هذه المصالح، وما إن كانت واشنطن لديها القدرة الجيوسياسية للتأثير في الوضع بالاتجاه الذي تعتقد أنه الأفضل للولايات المتحدة. وقد كان رد فعل الداخل السوري على أفعال الولايات المتحدة وتقاعسها سلبيًا من كلا الطرفين. فقد شجبت الحكومة السورية الضغطَ الأميركي على الرئيس ليتنحى. كما أعربت قوى المعارضة علنًا عن انخداعها بالولايات المتحدة لأنها لم تتدخل بالطريقة التي ترغبها هذه القوى، كما أعلنت أنها لا تستطيع التعويل على عمل جدي من طرف الولايات المتحدة.
أما القوتان الاستعماريتان السابقتان: بريطانيا العظمى وفرنسا، فهما تُجَعجِعان كالولايات المتحدة، ولكن بشدة أكبر. فقد كانت إدانتهما للأسد أبكر وأقوى. ولكن ترددهما أيضًا في اتخاذ إجراءات عسكرية مباشرة كان أبكر وأقوى، فيما يبدو. لقد أظهر تدخلهما في ليبيا حدود فعاليتهما العسكرية من دون تعاون أميركي مباشر.
كتب جوليان بيرغر، المحرر الدبلوماسي لصحيفة الغاردْيَن، يوم 13 أغسطس/آب 2012 : “تسعى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا جاهدةً لتحتفظ بنفوذها وسط مخاوف من أن معظم الدعم من دول الخليج قد تحول نحو الجماعات الإسلامية المتطرفة”. يقول بيرغر: إن جون ويلكس، المبعوث البريطاني الخاص إلى المعارضة السورية، ذهب إلى إسطنبول للقاء ممثل رفيع المستوى من المجلس الوطني السوري. وقد شدد ويلكس على مسألتين: تتمنى بريطانيا العظمى ألا ينتقل العنف من سوريا إلى تركيا، كما أبلغت بريطانيا العظمى زعماء المعارضة أن احترام حقوق الإنسان والأقليات كان “شرطًا للتعاون في المستقبل”.
يعتقد وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أن حكومة ساركوزي أفرطت في ثقتها في المجلس الوطني السوري، وحث على حشد الدعم لمناف طلاس، وهو ضابط سني بارز انشق عن النظام. المشكلة بالنسبة إلى بريطانيا العظمى وفرنسا، وكذلك للولايات المتحدة، ليست فقط مَن تدعم وما شكل الدعم الذي تقدمه، ولكنها أيضًا ما إذا كانت لديها القدرة على التأثير في الوضع الداخلي بشكل كبير.
فهل لدول الخليج مثل هذا النفوذ؟ إن هذه الدول تسعى أيضًا لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. بَيْد أن الدولتين الأكثر نشاطًا، وهما قطر والمملكة العربية السعودية، لا تنتهجان سياساتٍ متماثلة.
كانت قطر مستعدةً صراحةً لتزويد معارضي النظام السوري بالمال والسلاح، ولاسيما الجماعات السلفية والجهادية. وقطر تحاول منذ أكثر من عقد أن تكون لاعبًا رئيسًا في الشرق الأوسط، وتأمل في أداء دورٍ في سوريا يماثل الدور الذي أدته في ليبيا. تُرى، ألا تحاول قطر في انتهاجها هذه السياسة أيضًا أن تمنع المحاولات السعودية المزعومة لابتلاع كل دول الخليج؟
أما المملكة العربية السعودية، فتبدو مترددة كالولايات المتحدة تمامًا، وهي تقدم نفسها على أنها المُدافع عن المسلمين السُّنة في كل مكان، وخاصة ضد الشيعة، وبالأخص ضد إيران. ولكن ليس كل المسلمين السُّنة يقبلون دورًا قياديًا سعوديًا، نظرًا لالتزام السعودية بالإسلام الوهابي. والنظام السعودي لا ينظر إلى جميع المسلمين السُّنة بعين الرضا والتسامح.
تواجه المملكة العربية السعودية صعوباتٍ كبيرة لتبوُّء مثل هذا الدور القيادي. والنظام السعودي يقلق من قوتين سنيتين أخريين تعززان مواقعهما في الشرق الأوسط؛ فالإخوان المسلمون يتبنون رؤيةً مختلفةً للعقيدة السُّنية. علاوةً على ذلك، لا تزال مصر هي الحاضنة الكلاسيكية لجماعة الإخوان المسلمين على الصعيدين السياسي والديني. إن عودة الإخوان المسلمين الآن للحياة السياسية في مصر (كما في غيرها) قد تسمح لمصر باستئناف دورها السابق في ريادة العالم العربي، وبهذا ستُهَمِّش المملكة العربية السعودية.
الأسوأ من ذلك، بالنسبة إلى السعوديين، هو تجدد قوة القاعدة التي تسعى إلى إسقاط النظام السعودي الذي تراه فاسدًا وغير إسلامي.
مشكلة السعودية في سوريا هي أن جماعات المعارضة تنضوي تحت راية الإخوان أو القاعدة أو القيادات العلمانية، وهذا أمرٌ لا يَسُرُّ السعوديين. لذلك، فعلى الرغم من رغبة السعوديين في قصِّ أجنحة إيران وعلى الرغم من تبنيهم العلني لدور الحامي للإسلام السني، فإنه من غير المؤكد أنهم يزودون قوى المعارضة بالأسلحة.
نمت أهمية تركيا في المنطقة بشكل مطَّرد، ورغبة الأتراك في أن يصبحوا لاعبين رئيسيين تستحوذ على جُلِّ مساعيهم الدبلوماسية. ولكن يصعب أن نعرف بالضبط السياسة التي تنتهجها تركيا. الواضح هو أنها صارت تنتقد الأسد ونظامه البعثي بشدة. والأتراك يدلون بتصريحات تتشابه يومًا بعد يوم مع التصريحات التي يُدلي بها القادة الأميركيون. وهم يوفرون اللجوء (وإن كان ملجأً ضيقًا جدًّا) للمعارضين السوريين الذين يرغبون في عبور الحدود.
لكنهم يرفضون أن تشن قوى المعارضة السورية أعمال عنف من داخل الحدود التركية، ويرفضون الحديث عن منطقة حظر للطيران. ويبدو أن الدعم الذي يقدمونه للمعارضة هو دعم كلامي وإنساني، لا عسكري. علاوة على ذلك، فإن الحكومة التركية مشغولة بالحركات الكردية، سواء داخل تركيا أو في البلدان المجاورة، بما في ذلك بطبيعة الحال سوريا. ويبدو أن الأكراد في سوريا قد استغلوا الاضطرابات للسيطرة على المناطق الكردية. والنظام البعثي غير راغب في منع هذا (أو لعله لا يقدر عليه). وهذا يزعج الحكومة التركية ويؤرقها. ولهذا، مرة أخرى، تكثر الأصوات وتقل الأفعال.
وهدف مصر في المقام الأول هو أن تستعيد مكانتها بوصفها البلد العربي الرائد. لهذا، فإن النظام الجديد سيحاول إعادة توجيه علاقاته بالنسبة إلى القضية الأساسية، فلسطين، من غير أن يُدير ظهره تمامًا للولايات المتحدة. لهذا فإن سوريا لها أهمية ثانوية في هذه المهمة الحساسة.
يجد كلٌّ من العراق والأردن نفسه في ورطةٍ مخافةَ أن تؤثر الاضطرابات السورية في الاستقرار الداخلي الهش لكل منهما. وكلاهما يقبل دخول لاجئي المعارضة السورية، ولكن سلطات البلدين تحشرهم في مخيماتٍ شديدة الرقابة، مما يحرم هؤلاء اللاجئين من أي نشاط سياسي أو عسكري. وهذا أدى إلى عودة بعض المنفيين فعلاً إلى سوريا حيث يشعرون براحةٍ أكبر هناك. والفلسطينيون يتخذون ذات الموقف المتعقِّل.
أما مصلحة لبنان الجيوسياسية الأساسية فهي الحفاظ على الترتيبات الداخلية الحالية شديدة الحساسية. ولكن نظرًا للعلاقات الوثيقة التي تربط مختلف المجموعات اللبنانية مع القوى في سوريا، فإن البقاء على الحياد أمر في غاية الصعوبة فيما يبدو. وفرنسا تحث هذه المجموعات بقوة على البقاء كذلك.
لا يمكن تجاهل إسرائيل بوصفها عنصرًا فاعلاً. ومنذ فترة، جعل النظام الإسرائيلي همَّه الأول احتمال تسلح إيران نوويًا. وليس من الواضح أن الإسرائيليين يمكنهم منع ذلك، وهو ما يقلقهم بالذات. فأين تقع سوريا، حليفة إيران الجيوسياسية الرئيسية، في هذه الصورة؟ سوريا أيضًا كانت فعليًا جارًا هادئًا نسبيًا لإسرائيل. بينما تريد إسرائيل إضعاف إيران (وسقوط النظام في سوريا بلا شك سيُضعفها)، إلا أنها تُدرك وترجِّح أن القوى التي ستحل محل النظام ستجعل سوريا أقل هدوءً بكثير. وهذا ما يجعل إسرائيل تلتزم الصمت إزاء الاضطرابات السورية.
تسعى إيران، وهي عملاق في المنطقة، للحصول على الاعتراف الجيوسياسي بحقها في إدراجها في صنع القرار حول مستقبل المنطقة، وتحديدًا فيما يخص سوريا. وهذا بالضبط ما تنكره الولايات المتحدة وإسرائيل على إيران. ولهذا فإن إيران ليس لديها ما تخسره، بل تربح كل شيء من خلال العمل على الحفاظ على النظام السوري، وتقديم نفسها على أنها “وسيط نزيه” أساسي في سوريا.
أما روسيا والصين فلديهما مخاوف ملموسة: قواعد بحرية وموارد طاقة. ولكن هناك قضايا أكثر خطورةً بالنسبة إليهما. فهما تصران على أن ما حدث في ليبيا لا يمكن أن يُسمح له بالحدوث مرة أخرى. وهما تعتقدان أن بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة استخدمت قرارًا غامضًا من الأمم المتحدة لاستخدام القوة العسكرية للإطاحة بالنظام وتعزيز مصالحها الجيوسياسية بالتالي.
وهما تريان أن الولايات المتحدة، بوصفها قوةً مهيمنةً سابقًا، غير مستعدة حتى الآن للاعتراف بأفولها، وهو ما تعدّانه أكبر خطر في المنطقة. وهما تستخدمان حق النقض في مجلس الأمن لمنع احتمال انهيار النظام في المنطقة بأسرها. ليس لدى أي منهما ولعٌ خاصٌ بالأسد أو النظام البعثي في حد ذاته. وإنما تتحينان فرصتهما للعمل من أجل التوصل إلى حل سياسي لصراعات سوريا الداخلية.
الاستنتاج الرئيس من هذا المسح هو أن القوى المختلفة تُحَيِّدُ بعضها بعضًا. ولا أحد اليوم لديه القدرة على التأثير كثيرًا في سياسة سوريا الداخلية. فكل القوى محكومٌ عليها أن تتحدث أكثر مما تفعل. لذلك فإن ما يترتب على هذا المأزق الجيوسياسي للتطورات الداخلية في سوريا لا يزال غير مؤكد إلى حد كبير. وفي نهاية المطاف، فإن الجهات الداخلية الفاعلة متروكة لشأنها.
__________________________
إيمانويل والرشتاين – كبير الباحثين في جامعة ييل الأميركية
ترجمة النص إلى العربية: د. موسى الحالول