الحاجة إلى إطار أخلاقي لإعادة الإعمار عربياً/ ناصر الرباط
لم تسكت المدافع والصواريخ والطائرات في العراق وسورية واليمن وليبيا بعد، ولكن الحديث عن إعادة الإعمار انتقل من كواليس المنظمات الدولية ووزارات الإسكان والتعمير الرثة وشركات البناء العالمية العملاقة إلى الحيز العام. فلا يكاد يمر أسبوع إلا وتطالعنا الصحف العالمية والعربية وخبراء مراكز الأبحاث والتفكير بتقارير مسهبة عن أولويات إعادة الإعمار والتوطين، وإصلاح البنى التحتية المدمرة والمستهلكة وتأمين التمويل اللازم. فهناك الآن مشاريع موضوعة على الورق عن إعادة إعمار حلب والرقة والموصل والرمادي وإعادة تأهيل تدمر وغيرها من المواقع الأثرية في سورية والعراق واليمن (وإن كان حظ اليمن وليبيا من مشاريع إعادة الإعمار ضئيلاً لأسباب عدة).
كما أن هناك مشاريع إعادة إعمار مشبوهة الأهداف خطت بعض الخطوات باتجاه التنفيذ كما في حالة بعض أحياء حمص والزاوية الجنوبية الغربية لدمشق. وبغض النظر عن استحالة تقدير كلفة إعادة الإعمار في هذه البلاد الأربعة المنكوبة، وعن استحالة تأمين المبالغ الخيالية التي يتناقلها المعلقون والتي تبلغ الآن أكثر من تريليون دولار للبلاد الأربع في أكثر التقديرات تواضعاً، فإن عملية إعادة الإعمار نفسها تتطلب تفكيراً جديداً وإطاراً أخلاقياً يأخذ في الاعتبار أوضاع الأرض المدمرة ووقائع تاريخها ومطالب ووجهات نظر الناس المشردين أنفسهم ويتجنب أخطاء الماضي، عندما انتهت عمليات إعادة الإعمار في بلدان مدمرة بفعل الحروب الأهلية إلى ملء جيوب الشركات العالمية ووسطائها المحليين على حساب المشاريع نفسها والناس الذين يفترض أن يكونوا المستفيدين الأولين من هذه المشاريع العمرانية والإنمائية، أو، وهو الأنكى، مالأت هذه العمليات المجموعات المنتصرة ومؤيديها على حساب المجموعات الخاسرة التي بقي أفرادها مشردين أو نالوا حظاً ضئيلاً من المساعدة على تجاوز نتائج التشريد.
هناك أيضاً الأوضاع الخاصة والمعقدة لهذه الدول الأربع المنكوبة أيضاً والتي، وإن كانت تتطلب معالجات خاصة نابعة من ظروف هذه الدول الاجتماعية والسياسية والتاريخية والاقتصادية والسكانية والبيئية والطوبوغرافية، إلا أنها ما زالت بحاجة لتوجهات ناظمة فوق-دولتية وفوق-ثقافية، توجهات ترجح المحتوى والخلفية الأخلاقية للقرارات والمشاريع على معطياتها المادية والسياسية والإنشائية والقومية أو الهوياتية. بل إن عملية إعادة الإعمار في شكل عام يلزمها إطار أخلاقي واضح تُراقب من خلاله تصرفاتها وتُحد استثناءاتها وتُتلافى تجاوزاتها. هذا الإطار يجب أن يكون في الآن نفسه شاملاً وكلياً يطبق على كافة الحالات لتأمين عدالة تطبيقه، ولكنه أيضاً إطار مرن ومتكيف مع البيئة الثقافية والحقائق الديموغرافية للبلاد المعنية نفسها ومع شروط كل منها الخاصة. فقد شهدنا في نصف القرن الأخير العديد من محاولات التفكير بأُطر أخلاقية لسوس التدخل في مشاريع ما بعد الحروب على الصعيد الدولي والمؤسساتي، ولكنها بغالبها كانت تميل إلى واحدة من النهايتين الحديتين للتدخل: العالمية الشاملة والجامدة التي ترى الأخلاق من منظور إنساني شامل ولا تقبل بأي معيار سياقي من جهة كما في حالة توجهات المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، والنسبية الثقافية والمحلية التي تضيع في متاهاتها غالبية الاعتبارات الإنسانية الجامعة التي اعتمدها بعض مفكري ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية وبعض الأنظمة «الثورية» الغاشمة من جهة أخرى.
لكن تطوير إطار أخلاقي يستوعب كلا الهدفين في الآن نفسه هو فوق كل شيء هدف ذو بعد معرفي بالدرجة الأولى بما أن غالبية البُنى الأخلاقية المتوافرة لتأطير أي تدخل في شؤون البلاد والعباد ما زالت تعاني من التضارب بين النهايتين الحديتين لمفهوم الأخلاق كما تطور فلسفياً ثم مؤسساتياً في العقود الأخيرة بتأثير أهوال الحربين العالميتين وحروب التحرر من الاستعمار وتاليها حروب الحرب الباردة التي كانت أكثر من ساخنة محلياً.
هذا الإطار الأخلاقي المنفتح ولكن العادل هو بالإضافة لذلك واجب ومسؤولية النخب المفكرة والفاعلة للبلاد المنكوبة قبل أي طرف آخر وقبل الاعتماد على الخبرات العالمية التي وإن تمتعت بالتجربة والعمق المعلوماتي إلا أنها تفتقر تعريفاً إلى التعاطف والتفهم النابعين عادة من الانتماء والتعود والمعرفة المحلية المتعمقة. هذا على أقل تقدير ما يمكن ملاحظته للأسف في الكثير من تقارير التأطير والتعريف للعديد المؤسسات الإنسانية الدولية المانحة التي تسارع مشكورة بعد كل كارثة إلى التدخل في مكان الكارثة مع النية الحسنة والقواعد الواضحة والاندفاع الملتزم، ولكنها مع ذلك تفشل وتثير غضب واحتجاج متلقي مساعدتها أنفسهم أحياناً لأسباب بسيطة، تكون عموماً ثقافية ودينية، كان يمكن تلافيها بقليل من المعرفة المحلية.
على هذا الأساس، أرى أن على المفكرين والممولين والمانحين العرب، أفراداً ومؤسسات، التداعي لوضع أطر أخلاقية لإعادة الإعمار المزمع، قبل وبغض النظر عن إمكانية إعادة الإعمار في المستقبل القريب أو عن توافر التمويل أو عدمه. بل إني أزعم أن وضع إطار أخلاقي لإعادة الإعمار في كل من البلاد العربية المنكوبة شرط أساسي سابق لأي عملية أخرى وناظم لها، وربما أيضاً متلافٍ لبعض تجاوزاتها قبل أن تحصل (على افتراض التزام الهيئات المعنية بهذا الإطار أو وجود جانب رادع قانونياً ومالياً له). يمكن لهذه الأطر الأخلاقية أن تصمم لكي تكون آنية وموضعية وسياقية، مع الأخذ في الاعتبار المستوى العالمي المعرفي المعاصر لمفهوم الأخلاق ذاتها. ويمكن لها أيضاً أن تكون أكثر اتساعاً تطبيقياً وأن تحاول توجيه أكثر من حالة، بل أن تعمم على منطقة ثقافية بعينها، مثل منطقتنا العربية والإسلامية التي تتشارك بالكثير من المعايير الثقافية والدينية ذات الأرضية الأخلاقية، أو على نوعية تدخل محددة مثل إعادة الإعمار بعد الحرب كحالة مختلفة عن إعادة الإعمار بعد كارثة طبيعية.
لا أقصد من دعوتي هذه استثناء الجهات العالمية التي لها باع طويلة في التفكير بالأطر الأخلاقية العملياتية، ولكني أعطي الأولوية «لأهل مكة الذين هم أدرى بشعابها» والذين هم أيضاً أدرى بما يحتاجونه من معونة تنظيمية أو فلسفية أو معرفية من المؤسسات الدولية ومراكز التفكير والقرار العالمية. فهم بنتيجة الأمر المستفيدون أو الخاسرون الأولون من إعادة الإعمار ذاتها، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية استعادة بعض المدنية لبلادهم المنكوبة عندما تهدأ طبول الحروب التي بدأت تظهر عليها علامات الوهن والتباطؤ.
* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
الحياة