الحديقة بين قبلَتين
علاء الراش ونبراس شحيّد
حفّار القبور
لم يكترثوا لتلك اللافتة المعلّقة على السور الحديديّ، وقد أكلها الصدأ: “تُغلِق الحديقة أبوابها في السابعة والنصف مساءً”. لم يكترثوا، فالطريق إلى المقبرة مستحيلة. دخلوا الحديقة ليلاً حيث جُهِّزت الحفرة من دون أن تعرف اسم الوافد الجديد. كان لأبي عمر، حفّار القبور، المتّسع من الوقت الأسبوع الماضي ليحفر مجموعةً من القبور “الاحترازيّة”، فالقبر الأبيض لليوم الأسود، يقول من بقي من سكان الخالدية. ضوءٌ خافتٌ سلّطه الرجل على جثة الطفل المتفحّمة، وقد أُنزلت بهدوءٍ إلى الحفرة. قرأوا الفاتحة، وابتدأ الرجال بردم الهاوية التي ابتلعت الصغير.
هكذا، تابع عُمَر لعبه في الغرفة الصغيرة وحيداً بعدما قبّل أخاه للمرّة الأخيرة في الحديقة- المقبرة، وأزيز الرصاص يملأ المكان.
ستعيد سوريا المستقبل النظر في تخطيط المدن، وستكتب على الأسوار الحديد: “لن تُغلِق الحدائق أبوابها أبداً، كي لا يملّ الشهداء صمتَ الوحدة”!
الحدائق المعلّقة
كما حطمت الثورة أصنام السلطة، كذلك حطمت السلطة حزمةً من المقدسات: الشبّيحة يقتحمون الجوامع ليكتبوا على جدرانها شعاراتٍ لا تُقدّر بشراً أو آلهة، والكنائس قُصفت، وحرمة القبور المنبوشة تقول اللامبالاة بهيبة الموت. نادين الكردية، كتبت على حائط الـ”فايسبوك”: “في مرتين متتاليتين، على مقعدين خشبيين متعاقبين، داخل حديقتين مختلفتين، عثرنا على أشلاء جثثٍ في إدلب”. لكن… لكن حرمة الحدائق لعشّاق الجسد، كحرمة المعابد لعشاق الروح!
لم يبقَ من أشجار الحدائق شيءٌ يذكر، فقد قطّعها من بقي من سكّان، لإشعال ما تبقّى من نار، في ما تبقى من شتاءٍ قارس. المحروقات للدبابات والأشجار لمن ينقصه الدفء، والعناكب نسجت بيوتها على حطام “الصوبيا” الفضيّة.
وبعدما صارت الحدائق عارية، لم يبقَ للعشّاق المولع بعضهم ببعض، مكانٌ مستتر يتبادلون فيه القبل! صحيحٌ أنْ لم يعد هناك حارسٌ بصفّارة ليفكّ التصاق الشفاه، لكن العشّاق باتوا يتحاشون عناق الحدائق، كي لا يخلّوا بآداب الموتى!
القبلة المحرّمة
سابقاً، كان المراهقون يصوّرون الحب بسهولة: عاشقان على مقعدٍ أخضر يتبادلان القبل تحت الأغصان الكثيفة حين يخيّم الظلام. لكن الأحوال تبدّلت! كتبت هبة على حائط الـ”فايسبوك”: “حمـص حيـن يُدفن الاطفال في الأماكن التي يحبونها”، لتعقّب قائلةً: “أبكتني هذه العبارة، وقتلتني الصورة”. لقد بدّل المراهقون من هواياتهم اليوم، فقد تعلّموا تصوير الموت في الحديقة: المصوَّر ميت، لكنّه حيٌّ في الصورة وليس مومياء أو لفافة قطنية مغبشة الملامح! الشهيد صورة أخيرة، وفي الصورة يتمدد على تراب الحديقة، ليحتفل به الحيّ في المقبرة الجديدة، فيجبِره أصدقاؤه على التذكر بأن حياة الطفولة كانت جميلة.
ستكتب سوريا الغد على أبواب الحدائق: “هنا، يُطلب من العاشق تقبيل عشيقته، لكي لا ينسى الموتى رائحة الشفاه!”
القصيدة التي كانت ممنوعة
في يومٍ ما، في حديقةٍ ما، سيقطف عُمَر وردةً ما، ليقرأ لحبيبته قصيدة عشق ما، كانت ممنوعةً في كتابه المدرسي القديم: “… كانت على السُلَّم/ هو إلى جانبها وهي إلى جانبه/ … قالت له:/ … هنا نمرض من كل شيء/ من الحرارة، من البرودة/ نتجمد، نختنق/ وليس ثمة هواء/ فإذا توقفت عن تقبيلي/ فيبدو لي أنني سأموت اختناقاً/ عُمرُ كلٍّ منا خمسة عشر عاماً / وعمرنا معا ثلاثون عاماً/ وبهذا لم نعد طفلين/ لنا من العمر ما يكفي لنعمل/ ولنا ما يكفي لنتبادل القبل/ فإن لم نفعل فسنكون قد تأخرنا كثيراً/ حياتنا هي الآن/ قبّلني” (جاك بريفير)
هكذا، ستزهر الحديقة من جديد…
النهار