صفحات الرأي

الحراك الديموقراطي العاثر في مجتمعات ما قبل مواطنية


كرم الحلو

نشأت الديموقراطية في الغرب على خلفية ليبرالية تلازمت في منظومتها الحداثية مفاهيم الفرد والحرية والمواطنة والعقد الاجتماعي والدولة المركزية. وقد مضى زمن ليس قصيراً حتى تُرجمت هذه المبادئ في انتخابات حرة شارك فيها جميع المواطنين طوعاً، ومن دون تمييز او استثناء في اختيار سلطات تمثلهم وترعى شؤونهم باعتبارها مفوضة ومنتدبة من جانبهم، بوصفهم مواطنين لا رعايا، لهم ما لها من حقوق وعليهم ما عليها من واجبات. ولم يكن هذا ممكناً لولا انتقال الامم الغربية من التشرذم العرقي والجهوي والمذهبي الى الاندماج القومي والوطني، وقيام الدولة القومية الوطنية، وتقدم الانتماء والولاء لهذه الدولة على ما عداهما من انتماءات وولاءات جزئية ما قبل قومية وما قبل وطنية.

في المقارنة، يدور الحراك الديموقراطي الذي يعصف بالعالم العربي منذ العام الماضي، في فضاء مختلف عن الفضاء الذي أنجب ديموقراطية الغرب حيث تبدو أنحاء شاسعة من هذا العالم في حقبة ما قبل الدولة المركزية الحديثة، بل حقبة ما قبل التجانس القومي وتبلور العصبة الوطنية التي يعود طرحها في الفكر العربي الى القرن التاسع عشر. فالعالم العربي ما زال محكوماً بالعقل التقليدي الموروث وتجلياته في السياسة والفكر والاجتماع، وهذا العقل لا يؤمن اصلاً بـ «العامة» او «العوام» كما يسمّيهم عبدالرحمن الكواكبي، ولا هو يقر بدور هؤلاء في السياسة والحكم، بل يستبعدهم من المجال السياسي ودائرة القرار، وطالما تعامل معهم بازدراء واحتقار. حتى إن الجاحظ ذهب الى حد اعتبارهم ادوات لـ «الخاصة»، وما تورّع ابو حيان التوحيدي عن نعتهم بـ «السفلة».

بـصورة عامـة، لم يعـترف الفـكر الـتقليـدي المـوروث بالفرد إلا في اطار الامـة، وما الأمة من منظوره سوى امة «مؤمنين» و «اهل ذمة»، لا امة مواطنين متساوين بالكامل كما في المفهوم الديموقراطي الحديث.

انتصب هذا العقل القبلي المتوارث دائماً في وجه اي تحول ديموقراطي عربي، وطالما حاصرته عصبويات قبلية، طائفية او مذهبية او عشائرية، كان من شأنها إفراغه من مضمونه الحداثي. فلا يلبث الحاكم أن يتحول الى رمز «قدسي» لطائفة او مذهب او عشيرة. فرحيل بشار الأسد عن السلطة ثمة من ينظر اليه كأنه انتهاك لطائفته، وثمة من اعتبر سقوط صدام حسين مسّاً بمذهبه، او سقوط القذافي سقوطاً لعشيرته. ولا يقف الامر عند هذا الحد، بل إن الحاكم الذي يكون زجّ بأبنائه وإخوته وأصهاره في المراكز القيادية في الدولة فأُثروا وتسلّطوا وتحكموا، لا يتورع عن الاستجارة بعشيرته او طائفته او مذهبه اتقاءً للمعارضة، وكذلك تنحو المعارضة المنحى ذاته باللـوذ الى عصـبياتـها العرقية والطائفية والمذهبية.

هكذا تتقدم الى الواجهة مجدداً كل أشكال الهويات الجزئية القائمة على اللغة أو الدين او العرق لتهدد الاندماج القومي والوطني الهش اصلاً، طارحة نفسها بدائل عنه، فتجهض الحراك الديموقراطي وتدفعه الى وراء.

ولم تكن المؤسسات ذات الطابع الديموقراطي الحداثي، كالمجالس النيابية ومجالس الشورى، لتشكّل تجاوزاً فعلياً للعقل القبلي المتخلف، وضماناً للديموقراطية بمعناها الحداثي. ففي المجلس التشريعي السوري نواب عشائر دائمو العضوية، وفي مجلس الامة الكويتي وفي مجلس النواب الاردني كانت للقبائل والعشائر دائماً حصص كبرى ثابتة، وفي لبنان استحوذت العائلات الطائفية التقليدية على مراكز متوارثة في السلطة السياسية، إن في المجلس النيابي او في الوزارة. وحافظت كل هذه المؤسسات الحداثية الطابع على الآلية القبلية في الحكم وفي التعامل مع الجماهير كرعايا لا كمواطنين.

لا تشذ المؤسسات العسكرية ايضاً عن هذا المنحى السـياسي القبلي. فللعصبيات الممسكة بالسلطة تنـظـيمات عسكرية ذات طابع قبلي، موازية للـجـيوش، كالميليشيات القـبلية في الـيمن، ومـجـالـس الصحـوة في العراق، وسرايا الدفاع في سورية.

وهكذا لا يبقى مستغرباً ان تتصدر النـزعات السلفية واجهة الحركة السياسـية بعد «الربيع العربي»، وأن تبرز مجدداً عصبيات قبلية وطائفية ومذهبـية وجـهويـة كـان ظُنَّ انها انطوت او تراجعت.

هل معنى هذا ان الديموقراطية مستحيلة في مجتمعات فسيفسائية لم ترتقِ بعد الى الحالة المواطنية والمدنية كما في عالمنا العربي؟

قد يكون ذلك على جانب كبير من الصواب، إلا انه ليس مبرراً للتراجع والانسحاب من معركة دمقرطة المجتمعات العربية. ليس هذا ما نريده. ما نريد ان ننبّه اليه هو ان ثمة عتبة لا بد من تجاوزها لئلا تـبقـى معركـتنا مـحـكومة بالفـشل ومـهددة على الدوام بالانزلاق الى الحرب الاهـليـة، وهي تـتمـثل في رأينا في حـسم مـسـألة الهـوية. لنـتفـق على تـحديد هـويتـنا اولاً، هل هي الطائفة أم المذهب أم العِرْق ام «الوطن» الجامع تحت لوائه للكل، يحتضنه ويعلو عليه من دون ان ينحدر الى التماهي مع اي من مكوناته؟

لقد كان النهضويون على حق اذ بدأوا من هذه الاشكالية، ففيها ومنها يجب ان نبدأ، وعليها يتوقف مستقبل حراكنا الديموقراطي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى