صفحات سورية

الحراك السوري وإلحاح النقد


حسن الحاف

ليس النقد دليل ضعف، إنّما العكس.

ما توالى نشره في الآونة الأخيرة حول الانتهاكات التي ترتكبها بعض «القوى» أو «الأفراد» المناهضين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد لن يعيد البتّة إلى الأخير الشرعية المنزوعة عنه. خلافاً لذلك، قد يسهم المنشور في مفاقمة لاشرعيّته. فهو، إنما يشكّل – ان صح طبعاً وهو أمر يتعذر التأكد منه – إدانة موصوفة للنظام السوري، واعترافاً بقدرته الفائقة على جرّ بعض معارضيه إلى احتذائه كمثال، رداً على ممارساته القاتلة. كما يشكّل إدانة لادعائه الانفراد في القدرة على توحيد المجتمع السوري تحت رايته، بعدما أمعن فيه تفكيكاً وتمزيقاً لروابطه ومشتركاته الوطنية بخاصة.

على أنّ توجيه الإدانة المركزية نحو مصدرها الأول والأساس، لا يعني إطلاقاً إسقاط مسؤولية الحركة الشعبية عن أفعال بعض محازبيها أو أنصارها أو رعاعها غير المنضبطين. فالحركة المذكورة وان تكن لا تزال تغالب دفاعاً عن سلميّتها في وجه جوهري من وجوهها، إلا ان الوجه الآخر، العنيف منها، ليس بلا ركائز أهلية راسخة القدم وعميقة الغور في البنية المجتمعية السورية. ولا تكفي، ههنا، نسبة الجرائم الطائفية إلى «شبيحة» النظام وأجهزة أمنه، تبرّؤاً منها. فهي تهمة هيّنة الرد من جانب النظام وأنصاره، بقدر ما هي مردودة من المعارضين وأنصارهم. غير أن الشمّاعات الجاهزة دوماً لتعليق الشوائب عليها تبدو ناجعة بقوّة في ضخ الحياة في خلايا النظام المتهافتة، بقدر ما هي قادرة على إفقاد الحراك الشعبي أجزاء من صدقيته عزيزة المنال. ذاك أنها صدقية مضرجة بالدماء الغزيرة التي اختطت معالم الطريق الطويل والوعر إلى الحرية المحجور عليها منذ دهر. فدماء السوريين لم ترق عبثاً، إنها ثمن الحرية، التي لم ترضَ في سائر التجارب العالمية الملهِمة بأقل من ذلك ثمناً لها.

الحق ان هذه الجرائم، وغيرها من التجاوزات تقتضي وقفة نقدية من قبل المعارضة، قوامها مراجعة نقدية شاملة للمسار الجذري الذي اختطته لنفسها، بمحطاته وأصعدته كافة، البرنامجية والتنظيمية. والمراجعات يجريها في العادة من يخوضون غمار تغيير الواقع، لا من يتفرجون عليه، على اختلاف مقاصد المتفرجين ومواقعهم من الحدث الأصلي. وإذا لم يجر التغييريون مراجعتهم في أقرب فرصة، فان ذلك قد يفضي في أحسن الأحوال إلى إطالة أمد المخاض الانتقالي المكلف، وفي أكثرها سوءا إلى إعدام فرص ولادة سوريا الديموقراطية والموحّدة في المدى المنظور.

غير أن ذلك، على أهميته البالغة، لا يجوز أن يحرف انتباهنا عن بيت القصيد. كما لا يمكن أن يدفعنا إلى الشك في أن المركب الأمني ـ السياسي، على ما يصفه الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، مارس طوال عقود حكم الديكتاتورية العسكرية لآل الأسد تفخيخاً للمجتمع السوري يعصى على التفكيك الفوري والسهل. والتفخيخ، على ما بات معروفاً، أجري لتأبيد حكم آل الأسد. من الأب إلى الابن.

أكثر من ذلك، قد يستغرق تفكيك هذه الشبكة المنسوجة بدقة وتدبـر شديدين منذ مطلع السبعينيات وقتاً أطول بكثير مما يعتقد البعض ويخمّن، بناء على تجـارب لا تأخذ بعين الاعتبار الواقع السوري وخصوصيات مجتمعه الأهلي المعقدة والمطموسة رغماًَ عنها، وليس بإرادتها، على ما بدا مؤخراً. والحال، أن الانبعاث الهائل والسريع من تحت الرماد لعصبيات أهلية محمومة، خالها البعض لوهلة أنها أمست في خبر كان، يؤكّد ما تقدّم.

ولئن صح القول ان هؤلاء المعارضين المتوسلين بالعنف سبيلاً إلى إنهاء الحــكم السلالي لآل الأسد، إنما كانوا في الأعم الأغلب منهم جنوداً في خدمة النظام، ثم انشــقّوا عنه غداة الحراك الشعبي، إلّا أن ذلك لا يعفي مثقفي المعارضة الديموقراطيين من ممارسة واجبهم في النقد. وهو نقد مبني على ضرورة تعزيز، لا تبـديد، ما اتسم به الحراك الشعبي منذ اللحظة الأولى لاندلاعه من تفوق أخلاقي ومن دعم غير عادي من الرأي العام العربي والدولي. والدعم ناجم، أولاً وأساساً، عن عدالة القضية التي رفعها عموم السوريين، طلباً للتحرّر من نظام أثري منغلق على ذاته الفئوية، ومقفل على أي محاولة جديّة للإصلاح من داخله. فهو لا يفعل شيئاً، إن فعل، إلا لأجل ذاته ودوام تسيده، وضداً من مصالح الآخرين جميعاً. وهؤلاء، في الحالة السورية، يعدون بالملايين، في أقل تقدير!

غني عن البيان، أن ما نقلته مجلة «دير شبيغل»، وقبلها منظمة «هيومان راتس ووتش»، يشكّل سبباً أدعى لمناهضي النظام التقدميين إلى مغادرة ضفة الصمت عن الانتهاكات الجارية والمتسعة رقعتها يوماً اثر يوم. إذ، حتى الخوف من توظيف النظام تلك الممارسات في معركته المفتوحة ضد شعبه، لا يبرّر بأي حال من الأحوال السكوت عنها، أو اعتبارها من «طبائع الأشياء» التي لا يسع أي حركة تغيير، بالمعنى التاريخي الواسع، أن تجتنبها. فهذا كلّه كلام وتنظير، لا يغيّر شيئاً مما يجري على أرض الواقع.

على أن ما تقدّم، ليس بلا قيمة حتى في حال تبيّن ان ما نقلته «دير شبيغل» عبارة عن خلط لوقائع حقيقية مع وقائع متخيلة، اضطلع بها أشخاص حقيقيون، ولو بأسماء مستعارة، وأشخاص مختلقون.

إن ما قالته «دير شبيغل» وقبلها «هيومان رايتس ووتش» دعوة إلى اليقظة والتنبّه قبل فوات الأوان. فساعة يغدو السوري عدواً للسوري، تصبح الانتفاضة اسماً آخر للحرب الأهلية التي شرعت معازلها ترتفع باطراد.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى