الحرب الأهلية.. بعد خراب «حمص»
عبد الله بن بجاد العتيبي
صوّتت الجمعية العمومية للأمم المتحدة الخميس الماضي على مشروع القرار الذي تقدّمت به المجموعة العربية بشأن الوضع في سوريا، وحصل القرار على أغلبية كبيرةٍ قاربت 137 صوتاً.
بهذا التصويت حصلت الدول العربية على دعمٍ سياسيٍ كبيرٍ وتأييد دوليٍ واسعٍ لرؤيتها لسبيل الحلّ للأزمة السورية المندلعة منذ عامٍ تقريباً، وهو ما يفتح المجال لأصدقاء سوريا حين يجتمعون في تونس لعمل المزيد من الجهد الفعّال والسريع لوقف حمّام الدمّ الجاري في سوريا.
أمران ثابتان منذ الفيتو الروسي الصيني المزدوج في مجلس الأمن تجاه سوريا: الأوّل: سرعة تصعيد النظام لعملياته ونوعيتها مع توسيع رقعتها الجغرافية. والثاني: بطء قرارت ومواقف مواجهتها من قبل الدول المؤيدة للشعب السوري كالدول العربية وتركيا والدول الغربية ومعها أكثر دول العالم.
مرّ عام 2011 غريباً في أحداثه وتطوّراته إن في نوعيّتها وإن في انتشارها، من زاوية معينة كان البعض يحكمه التفاؤل تجاه ما جرى ويجري في دول الاحتجاجات العربية وكان بعضٌ آخر يسيطر عليه التشاؤم، غير أنّ مما هو جديرٌ بالملاحظة أن كثيراً من المتشائمين كانوا منذ بدء الاحتجاجات في سوريا يؤيدونها بدوافعٍ متعددةٍ منها الرؤية السياسية والموقف السياسي تجاه نظام يرفع شعار المقاومة والممانعة الذي اتضح زيفه وينحاز لإيران كعدوٍ إقليمي للعرب ولدولهم ولشعوبهم.
التقت قناعات المتفائلين والمتشائمين على أن سوريا ستكون أفضل بدون نظام الأسد، ومع تصاعد الأزمة في الداخل السوري وأسلوب إدارة النظام للصراع عبر العنف والعنف فقط ازدادت هذه القناعات تماسكاً، خاصةً وأنّ النظام جعل جميع الخيارات السيئة والتخوّفات المنطقية التي لم يزل يطرحها المتشائمون خياراتٍ أفضل منه.
كان التخوّف الوحيد الذي يوازي في سوئه سوء نظام الأسد هو التخوّف من شبح «الحرب الأهلية« والآن، وبعد عامٍ من بداية الأزمة يبدو أنّ النظام كان لديه وعيٌ ما منذ البداية أو بعدها بقليلٍ أنّه يريد أخذ البلاد إلى أسوأ الخيارات الأخرى، أي خيار الحرب الأهلية بمعنى «عليّ وعلى أعدائي»، وأراد للجميع أن يتذكر المثل العربي الذي استشهد به مندوب سوريا في الأمم المتحدة بشّار الجعفري «بعد خراب البصرة».
لم ينتبه الجعفري الذي يميل لاستخدام اللغة الأدبية في خطابه الديبلوماسي شعراً ونثراً وأمثالاً، ولم ينتبه النظام الأسدي في خطابه السياسي إلى أن الشعب السوري قرأ عن «خراب البصرة« كما قرأ عن «خراب مالطا« ولكنّه ذاكرته الحيّة تحدّثه عن خرابين تاريخيين هما أشدّ حضوراً في وعيه وتكوينه وأكثر التصاقاً به وبتاريخه القريب وحاضره المرعب وهما «خراب حماة« قبل عقودٍ ثلاثةٍ و«خراب حمص« الماثل للعيان، وهما خرابان صنعهما النظام عن سبق إصرارٍ وترصدٍ.
بعكس خطابه السياسي والإعلامي الذي يحذّر من الجماعات المسلّحة والإرهابية فإن النظام الأسدي يسعى على الأرض لخلق هذه الجماعات ويتمنّى وجودها، ولئن حذّر الجعفري في تعقيبه على مشروع القرار العربي في الأمم المتحدة من تفسير الفقرة التي تحدّثت عن تقديم الدعم المادي والمعنوي للمعارضة من أنّها ستستخدم لتقديم دعمٍ لوجستي للجماعات الإرهابية فلربما كان يتحدّث بلغة المتمنّع الراغب.
كرّر المندوب السوري نفس مفردات خطاب النظام الأسدي حيث دعوى الجماعات الإرهابية التي لا يصدقه فيها أحدٌ، وأحسب أنّ روسيا والصين لولا مصالحهما لصرّحا بتكذيبه، كما أعاد استخدام «تصفية الحسابات« و«المؤامرة« من قبل الغرب وإسرائيل وبعض دول الخليج العربي بنفس المستوى، ولئن لم يصدقه أحدٌ في الأولى فلا أحسب أنّ أحداً سيصدّقه في الثانية.
وصف المندوب السوري القرار بأنّه متحيّز لا يمتّ لما يجري على الأرض في سوريا بصلةٍ، وما يجري على الأرض في سوريا يعرفه العالم أجمع فهو يراه بالصوت والصورة، بالزمان والمكان. نظامٌ يقتل شعبه وقوّات مسلحة تقصف المنازل وتنتشر في المدن والأحياء وتبيد المواطنين. والذي لا يمتّ لما يجري على الأرض في سوريا بصلةٍ هو حديث النظام ومندوبه عن استمرار الإصلاحات الكبرى في سوريا حيث التعددية والديموقراطية واستمرار الحوار الشامل واستمرار الدولة في حماية الشعب ومصالحه!
إنّ النظام الأسدي يشعر بوضوحٍ بأنّه غير مهدّدٍ بمصيرٍ مثل مصير ليبيا، بمعنى أنّه مطمئن لعدم إمكانية تدخلٍ عسكريٍ خارجيٍ لمنعه من قتل شعبه، حتى الآن على الأقلّ، ومن هنا فهو يعتقد أنّ تصعيده لعملياته العسكرية ضد المدنيين وزيادته لحجم البشاعة التي يتعامل بها مع مواطنيه ستساعده على هدفه في خلط الأوراق داخلياً وخارجياً، داخلياً فالمنطق يقول إنّ الاحتجاجات السلمية حين تواجه بالقوات المسلحة وعنف الدولة لن تصمد طويلاً في سلميّتها وستتحول إن عاجلاً أم آجلاً لحمل السلاح، ولو بعد عامٍ، وهو ما يريده النظام ليعود بدوره ويستخدم ذلك خارجياً في تأكيد منطقه القديم بوجود جماعاتٍ إرهابيةٍ مسلحةٍ كان له وحده الدور في إيجادها.
بعيداً عن ما يرغبه النظام وما يخشاه فإنّ على أصدقاء سوريا أن يجدوا طريقهم لإيقاف المذابح التي يتفنّن النظام في خلقها وابتكارها، وقطع الطريق عليه في دفع البلاد إلى حربٍ أهليةٍ تقارب في خطورتها خطورة بقائه.
ليس من غرض هذا المقال التحذير من تسليح الجيش السوري الحرّ الذي كان وجوده أثراً طبيعياً لعدم قدرة البشر على قتل أهلهم وذويهم عبر قواتٍ مسلحةٍ نظاميةٍ كما هي سياسة النظام، فربما كان هذا التوجّه هو الخيار الأخير لأصدقاء سوريا على قاعدة «آخر العلاج الكي»، ولكنّ غرضه هو محاولةٌ لفهم كيف يفكّر ويتحرّك نظامٌ كهذا النظام الاستثنائي في استهداف شعبه بكل ما يملكه من قوّة.
أخيراً، ليس جيداً لأي أحدٍ أن تصدق توقّعاته السيئة غير أنّ كاتب هذه السطور كتب قبل ثلاثة أشهرٍ في هذه الصحيفة (19 نوفمبر الماضي) عن خيارات النظام الأسدي ومنها «أن يختار نهاية عنيفةً داميةً تحرق الأخضر واليابس على طريقة خيار شمشون، ويأمل النظام من خلالها لا تدمير سوريا اليوم فحسب، بل ضمان استمرار النزاعات والدمار حتى بعد سقوطه الكامل».
الشرق الأوسط