“الحركة الإسلامية التركية ـ معالم التجربة وحدود المنوال في العالم العربي”
مواءمة الدين مع قيم الجمهورية
عمر كوش
يزداد النقاش في أيامنا هذه حول النموذج أو التجربة التركية، خصوصاً بعد وصول قوى وأحزاب إسلامية إلى السلطة في المرحلة الانتقالية في كل من تونس ومصر، حيث تطرح تكهنات وتساؤلات عن إمكانية أن تتبع أو تلتحق هذه القوى والأحزاب بالنموذج التركي الديموقراطي العلماني. وفي هذا السياق تكمن أهمية كتاب جلال ورغي “الحركة الإسلامية التركية – معالم التجربة وحدود المنوال في العالم العربي” (مركز الجزيرة والدار العربية للعلوم، الدوحة بيروت، 2010)، الذي يعتبر أن التجربة التركية هي الأكثر قرباً من العالم العربي، تاريخاً وجغرافيةً، والأوفر حظاً في أن تلهم العالم العربي معالم تجربة فريدة في النهوض والتنمية. ويذهب إلى حدّ القول بأن تجربة التنظيمات العثمانية، وما صاحبها من إصلاحات في تركيا العثمانية خلال القرن التاسع عشر، مثّلت تاريخياً التجربة الأكثر إلهاماً للعرب، في قضايا الإصلاح والنهوض، بينما تتأهل تركيا اليوم باقتدار لتلعب من جديد دوراً شبيهاً في عالم متغير، قد تكون فيه هذه التجربة أكثر نضجاً وأصلب عوداً من سابقتها، نظراً للتحول في موازين القوى واختلاف الأفق التاريخي بين تلك التجربة وتجربة القرن الواحد والعشرين.
ومن المهم التوقف ملياً عند التجربة التركية الحديثة والمعاصرة، بغية إبراز أهم معالمها ومحطاتها ومقوماتها، خاصة التطور والتغير المستمر الذي طاول علاقة الدين بالدولة فيها، وبالتحديد علاقة الدولة الأتاتوركية بالدين الإسلامي، ومن ثمة تبيان الديناميكية التي ميزت علاقة التيار العلماني بالتيار الإسلامي، وإظهار أهم المحطات المفصلية التي طبعت هذه العلاقة. وفي هذا المجال، يتناول المؤلف التجربة التركية منذ قيام الجمهورية الكمالية في العام 1923، محاولاً إعادة قراءة التجربة الكمالية من منظور مختلف وجديد ووضعها في سياقها التاريخي، وراصداً تجربة الحركة الإسلامية التركية وأطوارها المختلفة، وما عرفته من ديناميكية في التحول والتطور، وباحثاً في حدود الاستفادة من المثال أو النموذج التركي، من قبل المهتمين في العالم العربي.
ولا شك في أن العلاقة التي طبعت الدولة التركية في نسختها الكمالية بالحركة الإسلامية، بمختلف تياراتها، هي علاقة معقدة ومركبة، ومختلفة عن الفهم التبسيطي الذي يصوّر مسار التدافع بين الطرفين، على أنه مواجهة واضحة بين العلمانية التركية والإسلام، كونها أكثر تعقيداً من هذا التفسير الذي ينحو منحى أيديولوجياً ثقافياً ضيقاً، حيث تقدم تركيا في أيامنا هذه نموذجاً حيوياً وفريداً في امتحان واختبار دور الإسلام في الحياة السياسية، وتأثيراته في رسم معالم السياسات الخارجية للدول الكبرى. وهذا “المنوال” الفريد، الذي يشق طريقه بثقة وثبات على طريق مسيرة “ديمقراطية” مميزة، تجربة تطبعها إرادة القيادة السياسية التركية بالتحرك ليس فقط كإحدى القوى الغربية وكقوة أوروبية أيضاً، بل كذلك وبأريحية وسيادة كاملة في اجتراح سياسة خارجية، بعيداً عن الارتهان لأي إملاءات خارجية، الأمر الذي مكنها من تحقيق نتائج مهمة في إحدى القضايا الداخلية الملتهبة، بسبب أبعادها الدولية والإقليمية، ألا وهي القضية الدينية، ولعبت دوراً هاماً في مجمل قضايا منطقة الشرق الوسط والعالم المحيط بها.
ويجري النظر إلى موقع الدين في المشهد التركي الراهن، على الصعيد العام والخاص، بوصفه عاكساً للتطور الذي طرأ على الفكر العلماني، الذي وجد نفسه تحت ضغوطات الجدل والحوار الدائر بين نخبة من المثقفين الجدد، خصوصاً بعد أن بات التدين حالة عامة، بل ومقبولة حتى في الممارسة الشخصية للعلمانيين، مع الحرص في الوقت نفسه على أن لا يتم الخلط بين الإسلام والسياسة، وأن لا يتم الانزلاق إلى الحالة المتوترة التي يشهدها الشرق الأوسط بسبب هذا الخلط، حسب رؤيتهم، ذلك أن الأساس الذي يوحد العلمانيين اليوم هو أن لا تتم التضحية بالقيم الغربية التي تشبعوا بها، ولا المصالح التي وحدت بينهم. ويخلص المؤلف إلى أن التجربة التركية تميزت بتقديم رؤية مختلفة لعلاقة الدين بالدولة، على امتداد مسارها وتحولاتها، وتوقع الدين في التجربة في العلاقة بالفضاءات الأخرى، بشكل مختلف عن السياقات العربية، وبشكل جعله حاضراً بقوة في مسارات التجربة التركية، تحييداً واستدعاء.
ويكشف واقع الحال أن العقود الأخيرة في تركيا شهدت صعوداً ملحوظاً للتيار الإسلامي بشكل عام، بعد أن كان هذا التيار قبيل مرحلة السبعينيات من القرن العشرين الماضي مجرد تعبير من عدد من التعبيرات السياسية ضمن ما يعرف بأحزاب وسط اليمين، إلا أنه ومع بداية السبعينيات ظهر كحركة سياسية مستقلة بزعامة نجم الدين أربكان، الذي كان قد أسس ما يعرف بحركة الميلي غورش. وتعرضت الأحزاب الإسلامية لاختبارات صارمة من طرف النظام العلماني، أفضت إلى حلّ الحزب الذي كان يعبر عنها في كل مرة. ومع ذلك كان الإسلاميون ينجحون في كل مرة في إعادة التعبير عن أنفسهم في حزب جديد، بشكل مغاير وجديد، مصرين على حقهم في الوجود والعمل السياسي، لا سيما مع ما أبدوه من مقدرة على كسب ثقة قطاعات مهمة من الناخبين الأتراك.
ويعتبر النجاح الذي حققه حزب “العدالة والتنمية”، في انتخابات 2002 ثم 2007، مؤشراً على القدرة المتصاعدة للحركة الإسلامية، حيث تحول هذا الحزب إلى فاعل أساسي ومحدد في المشهد السياسي التركي، بعد أن حصد أصوات أكثرية الأتراك، وأكثر من ضعف الأصوات التي حصدها حزب الشعب التركي، الذي يقدم نفسه المعبر والحارس الوفي والتقليدي لقيم الكمالية العلمانية، وما يزيد من أهمية ما حققه في الانتخابات ودلالاته العميقة هو أن الحزب الذي حققها لم يكن موجوداً قبل العام 2001. وتبنى حزب “العدالة والتنمية”، بعد وصوله إلى الحكم في تركيا برنامجاً تنموياً إصلاحياً بعيداً عن الجدل الأيديولوجي، وشدد على احترام تقاليد العلمانية والتحرك ضمن الإطار العلماني، وعلى تنفيذ خطوات التحرير الاقتصادي، والإصلاح الهيكلي، والاندماج في الإطار الأوروبي عبر فتح الطريق أمام البلاد لاكتساب العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، إلا أن الشكوك والاتهامات ظلت تثار بقوة حول “أجندته الخفية”، وبخاصة من طرف النخب العلمانية والعسكر وأصحاب المصالح والنفوذ التقليديين في البلاد. ولم يلجأ الحزب، على الرغم من خلفيته الإسلامية، إلى تبني برنامج لـ”أسلمة” المجتمع، بل منح الأولوية في برامجه لدخول تركيا في النادي الأوروبي، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وإصلاح النظام القانوني، بما في ذلك إلغاء عقوبة الإعدام، وقضايا مثيرة للجدل على غرار قانون منع الحجاب في المؤسسات، والحرص على تحديد دور العسكر في النظام السياسي، وتحويل مجلس الأمن القومي إلى مؤسسة مدنية، لا يهيمن عليها العسكر، وتوسيع مجال حرية الإعلام لصالح الأقليات، لا سيما الأكراد، والمصادقة على كل مواثيق حقوق الإنسان الدولية.
ويجب فحص التجربة التاريخية التركية الحديثة، لاسيما “الكمالية” من منظور السياق التاريخي الذي انطلقت فيه، من خلال فهم أبعاد وخلفيات المشروع “الكمالي”، القائم على مجموعة من المبادئ الصارمة، والمعروفة بالمبادئ الستة، المتمثلة في اللائكية (العلمانية) والجمهورية والقومية والشعبوية والدولاتية والإصلاحية، والتي ترمز إلى المقومات الأساسية للدولة. ووفق هذا المنظور يمكن التخفيف من قسوة الأحكام القاسية التي انطبعت في الذهنية العربية حول شخصية مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، ومشروعه الذي أطلقه عقب إعلان الجمهورية، بما في ذلك منظوره للعلاقة بين الدين والدولة، حيث كانت القناعة راسخة لدى أتاتورك، ومن جاء بعده، بأنه لا يمكن حماية الحلم “الجمهورية الفتية” والمضي به بعيداً، في ظل الانقسام القومي والديني والثقافي، الأمر الذي استدعى مجموعة من المبادئ كضمانات لحماية “الجمهورية” المؤسس لتوها. وعليه، فإن التجربة التركية، تتميز بمقاربة فريدة ومميزة لقضية واحدة من أعقد القضايا التي تلقي بظلالها على الوضع في الشرق الأوسط، توترا واستقرار، وهي العلاقة الملتبسة والمثيرة للقلق بين الدين والدولة، وتحديدا بين الإسلام والسياسة، وبالتالي، فإن النموذج “التركي” يشكل منوالاً يجسد فيه الإسلام عاملاً مهما في دينامكية الحياة السياسية، إلى جانب العامل القومي، وسعي تركيا لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، بالتحايث مع الدور النشط في قضايا وملفات الشرق الأوسط.
المستقبل