صفحات الرأي

الحركة «الجهادية» سلم الى الانتقام الاجتماعي/ برنار روجييه

 

 

إثر التدخل الأميركي الأول في أفغانستان، تبدّدت حركة «الجهاد الاستراتيجي» التي رفعت لواءها منظمة إرهابية مترحلة، «القاعدة». وفي تلك المرحلة، وضعت «القاعدة» الرحال في ضيافة حركة «طالبان»، ولم تكن ضاربة الجذور في النسيج الاجتماعي الأفغاني. ومع التدخل الأميركي الثاني في «الشرق الأوسط الكبير»، ساهم احتلال العراق بين 2003 و2010 في تمدّد ظاهرة إرهابية جديدة: «الجهاد الاجتماعي». والظاهرة هذه رسخت في التربة السياسية والأنتروبولوجية للمجتمع العراقي، وأصلت العداء النخب المحلية. وكان أبو مصعب الزرقاوي، زعيم «القاعدة» في العراق الذي أردي في 2006، العَلَم على هذا التحول في التنظيمات الجهادية. واستهوت الزرقاوي فتوحات عماد الدين الزنكي الحربية، وهو كان حاكم حلب والموصل في القرن الثاني عشر، فغلّب كفة بلاد المشرق المهملة والفقيرة على كفة شبه الجزيرة الثرية. وأنزل الزرقاوي كراهية الشيعة في مرتبة مكافحة الغرب، ونصبها صنواً لها. فترك توجيهات واضعي استراتيجيات «القاعدة»، الذين كان شاغلهم رصّ صفوف العالم الإسلامي في مواجهة أميركا. والزرقاوي هو مبتكر الحرب الاجتماعية الجهادية. فهو يتحدر من قبيلة أردنية عريقة، وحصّل قوته بالعمل المتقطع وارتكاب جنح في الزرقاء – وهي ضاحية صناعية مهملة في شرق عمان ينزل فيها مقتلعون من منابتهم الاجتماعية (فلسطينيون). وشريان الحياة في هذه المحافظة هو حركة التجارة بين العراق والسعودية. وفي هذه الضاحية، أرسى أيديولوجية جهادية حملها معه من رحلته الى بيشاور الباكستانية في 1989، إثر تتلمذه على أبو محمد المقدسي (من منظري السلفية الجهادية). وبعد عشر سنوات، مدّ الزرقاوي في هرات الأفغانية الواقعة في قبضة طالبان، شبكة متطوعين، «جند الشام»، امتدت فروعها الى شمال أفريقيا وأوروبا. وتتلمذ كذلك على أبو عبدالله المهاجر، وهو شيخ مصري… وهذا الأخير أباح قتل «أعداء الإسلام». وأفلح الزرقاوي في استفزاز الجيش الأميركي في أول معركتين في الفلوجة (2004)، وفي تسريع وتيرة تجنيد البطالين إثر انهيار نظام صدام حسين (ومن فقدوا الحظوة إثر سقوط نظامه). وعلى رغم أن «الدولة الإسلامية في العراق» أبصرت النور إثر وفاته في حزيران (يونيو) 2006، إلا أنها التزمت «إرثه» وسارت على خطاه. فهو كان أول من قطع الرؤوس على مرأى من كاميرا تسجيلية حين قتل الرهينة الأميركية، نيكولاس بيرغ في أيار (مايو) 2004.

وفي الشرق الأوسط، استغلّت حركة «الجهاد الاجتماعي» خسارة النخب السنية التقليدية النفوذ. فهذه النخب وقعت بين مطرقة بروز الهيمنة الإيرانية الإقليمية وسندان انتشار التطرف الجهادي في الأحياء الشعبية. واليوم، ثمة تنافس بين «المقاوم» الوثيق الصلة بالنظام الإيراني، على غرار «حزب الله» في لبنان وسورية، وبين «المجاهد» الداعشي. وهذا التنافس يغذي جدلية (إما الالتحاق والدخول في النزاع وإما القمع، فتكون الغلبة للجماعات العنيفة على الأرض.) عنف تطيح إمكان بروز حركة سنّية شعبية وبديلة عن الجهادية، على رغم أن الحاجة تمسّ الى مثل هذه الحركة في مواجهة «داعش». وعلى خلاف حلفاء إيران، تفتقر المنظمات الجهادية الى القدرة على مهاجمة إسرائيل، على رغم أنها تقترب من سيناء والجولان. لذا، توجه العنف على اليهود الأوروبيين وكل ما هو وثيق الصلة بالغرب. وليس مدار المسألة على من يمسك بمقاليد المسلمين: فالحرب السنّية – الشيعية في المشرق تفاقم النزاعات الطبقية بين السنّة. ومن يحملون السلاح، وهم بروليتاريا مسلحة، إذ يعتنقون التطرف الديني يسعون الى تقويض نفوذ النخب المنتفحة على صيغ التعاون السياسي في المذهب الواحد وبين المذاهب. وفي سورية حيث أطاح آل الأسد منذ 1970 سلطان وجهاء المدن، رفض شباب حمص وحلب الامتثال للضباط السنّة في الجيش السوري الحر في ربيع 2011. فهؤلاء يمثلون، على رغم انشقاقهم عن جيش الأسد، رموز النظام الكريه. لذا شكلوا كتائب مستقلة موّلتها دول عربية.

وبعد أقل من عقد على وفاته، انتشرت أفكار الزرقاوي ومشروعه خارج بلاد الشرق، وبلغت الغرب. فـ «الجهاد» القاعدي (الذي يستهدف مرافق مدنية وغير مسلّحة) هو الجسر الى الترقي وحيازة المكانة من طريق نشر العنف المتطرف. ففي أوروبا، تبنى الجانحون والخارجون من النظام التعليمي هذا النموذج الجهادي. فالبلجيكي عبدالحميد أباعود، وهو «العقل المدبر» وراء هجمات باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، كان جانحاً بائساً وغارقاً في النرجسية ويغدق المديح على نفسه، وكان شاغله الهوسي صورته في ميدان المعارك في سورية. وفي 2014، ظهر أباعود، أو أبو عمر البلجيكي (كنيته الجهادية)، في فيديو داعشي وهو في خندق بعيد كيلومترات من الجبهة، وكان يدعو إخوانه الى الالتحاق بالجهاد وتبجّح بدخول الفلل والقصور. وعلى متن آلية دفع رباعي، صوَّر مدناً سورية مهجورة في شمال سورية وحلم ببلوغ دمشق «للسطو على البنوك». و «الهجرة» الى الشرق كانت جسر أمثال أباعود الى التخلّص من وصمة الفشل الاجتماعي من طريق ابتكار مسار «عظيم» والتحوّل الى «جندي الإسلام»، والعودة الى أوروبا، وشنّ هجمات للترقي في سلم المراتب في «داعش»، وترك المهمات الوضيعة والثانوية مثل دفن جثث «الكفار» الأجانب و «المرتدين» السوريين.

* خبير في الشؤون السياسية وأستاذ في باريس الثالثة، عن «لوموند» الفرنسية، 16/2/2016، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى