الحروب العربية الجديدة/ يزيد صايغ
يشهد عدد غير مسبوق من البلدان العربية نزاعات مسلحة من نوع أو آخر على نطاق واسع. فقد بلغت الحرب عواصم العراق وسورية وليبيا واليمن، وتمسُّ معظم أراضيها. ويعيش قطاع غزة حالة هدنة مسلحة شبه دائمة تتخلّلها جولات وجيزة نسبياً من العنف المكثّف، بينما انجرّ لبنان بقوة إلى قلب الحرب الأهلية السورية، التي امتدّت إلى التراب اللبناني أخيراً. ويمثّل تدفّق المتطوّعين الجهاديين من الأردن ودول عدة في شمال أفريقيا والخليج إلى العراق وسورية منذ عام 2003، ونيّة حكومات عربية عدة إرسال قوات تدخّل رمزية ضد «الدولة الإسلامية» في العراق، نوعاً مهماً آخر من الحرب.
يظهر نمط الحروب العربية في أوائل القرن الحادي والعشرين ديناميكيات وآثار جديدة. فإن الحكومات التي تمكّنت في السابق من الحفاظ على النظام السلطوي من خلال الوسائل العسكرية، باتت تُفكِّك دولها القوية سابقاً من خلال خوض الحرب ضد مجتمعاتها. وفي حالات عدة، أدّى ذلك أيضاً إلى تفكيك قواتها المسلحة النظامية. لكن العكس صحيح أيضاً: الحرب ليست عملية انحلالية أو تفسُّخية وحسب. إذ تخوض أنواع جديدة من الجماعات المسلحة، غير الدول، الحرب بطرق لاتؤدّي فقط إلى إعادة تركيب الدول الوطنية (أي القُطرية) القائمة، بل وتساهم في بناء كيانات سياسية بديلة تستند إلى أواصر وهويات اجتماعية-ثقافية دون الوطنية أو فوقها، أكانت حقيقية أم مُتخيَّلة.
يشكّل ما سبَق قلباً للأنماط التي ترسّخت في غضون القرن العشرين، حيث ولّدت الحروب الدول ودفعت عمليةَ بنائها وتعزيزها – ما أضفى عليها «الصلادة» – أكان ذلك بطرق مباشرة أم غير مباشرة. فقد كرّست الحربان العالميتان الأولى والثانية نواة النظام الإقليمي للدول العربية، علماً أن ذلك حصل من خلال التدخّل الخارجي للقوى العظمى، بدلاً من سياسات وصراعات الحكام القُطريين وخصومهم المحليين من الداخل.
وتطوّرت منظومة الدول العربية وتوسَّعت عبر مسلسل طويل من الحرب الأخرى: في الأعوام 1948 و1956 و1967 و1973 و1982 مع إسرائيل؛ 1980-1988 مع إيران؛ وحربا الخليج مع ائتلافَين قادتهما الولايات المتحدة؛ عدا الحروب الحدودية بين اليمن الشمالي والجنوبي، ومصر وليبيا، وليبيا والتشاد، والمغرب والجزائر.
كما نشأت بعض الدول العربية، أو أُعيد تكوين أُسُسها الدستورية، عبر حروب التحرير الوطني أو الحروب الأهلية الطويلة: الجزائر والسلطة الفلسطينية واليمن الجنوبي، في المجموعة الأولى؛ والعراق ولبنان وعُمان والسودان واليمن الشمالي، في المجموعة الثانية. كما نجحت حكومات عدة – ولا سيما في مصر وليبيا وسورية والعراق، وبدرجة أقل الأردن – في تبرير قمع أو تقويض المعارضة الداخلية، وبسط سيطرة الدولة على الاقتصاد، وتشييد الإدارات البيروقراطية المركزية السلطوية، من خلال الإعلان عن حالة المواجهة الدائمة أو التأهّب للحرب ضد الأعداء الخارجيين.
لقد نتجت الاتجاهات التي ظهرت جلياً منذ بداية القرن الحادي والعشرين عن فشل معظم الدول العربية في فتح نظمها السياسية أمام المشاركة الأوسع، وفي مأسسة التعدّدية. بل وامتنع أغلبها حتى عن «ترقية» أو «تحديث» بُناها السلطوية، لجهة تحسين الأداء الإداري، والخدمات العامة الأساسية، والوظائف التنظيمية للدولة، على رغم تساهلها إزاء اتّساع الهوة الاجتماعية بسبب اتّباعها لسياسات الخصخصة الاقتصادية. ونتيجة لذلك، فإن استخدام القوة لحلّ المشاكل الاجتماعية ومواجهة التحديات السياسية، قد أوصل العديد من النظم المتكلِّسة إلى نقطة الانهيار، ما أطلق العنان لقوى وأجندات مجتمعية جديدة.
ظهرات أشكال جديدة من التنظيم العسكري، في موازاة ذلك، لدى الجيوش النظامية والميليشيات على حدّ سواء. وحصلت نقلة مهمة: من التشكيلات العسكرية الوطنية (أي القُطرية) إلى المحلية (الجهوية). ففي عقدَي السبعينات والثمانينات، على سبيل المثال، هيمنت بضع ميليشيات أو جيوش غير نظامية على الساحة في لبنان وداخل منظمة التحرير الفلسطينية، التي استقطبت الأعضاء المسلحين وعملت على مستوى وطني عام. غير أن الأمر الملفت عند النظر إلى الميليشيات الليبية أم الجماعات المسلحة الثائرة في سورية اليوم، هو تعدّدها وتشرذمها الشديدان، ما يكشف أن قاعدتها الاجتماعية (أي مصدر أفرادها) محلية تماماً، وأن هياكلها الوطنية الأوسع ضعيفة.
يعكس ما سبق تآكل الأطر الدستورية الوطنية (القُطرية) والعقد الاجتماعي، ما عمّق الانقسامات في المجتمع – أكانت على أساس القرابة أم الجهة أم الهوية الإثنية أم الطبقة الاجتماعية – وضيّق بدوره الخريطة السوسيولوجية للحركات المسلحة الجديدة. وفي غياب فرص اللجوء المتساوي والمضمون إلى الشرطة والقضاء، وغياب التمثيل السياسي الفعال من خلال بُنى كالبرلمانات والحكم المحلّي (البلدي أو الجهوي)، فقد لجأ المزيد من المجموعات السكانية إلى «الأمن الذاتي». ولقد تعَسكَرَت هذه الأشكال في ظل الأزمات السياسية الحادّة في العراق وسورية وليبيا واليمن.
غير أن هذا النمط ليس مجرّد ردّ مألوف على ما عُرف بـ»الدولة الفاشلة» في عقد التسعينات من القرن الماضي. فالجماعات المسلحة الجهادية أمثال الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وغيرهما تتصور مجالاً أو فضاءً سنّياً يتجاوز حدود الدول الوطنية (القُطرية) في بلاد الشام، وصولاً إلى شبه الجزيرة العربية. وبات يقابلها تصوّر منافس لمجال أو فضاء شيعي يربط أماكن جغرافية ونقاط علام دينية-تاريخية محددة من العراق إلى لبنان، مروراً بسورية. وكما يكشف ظهور نزعة خصوصية في برقة أي في شرق ليبيا، فإن الظاهرة ليست طائفية وحسب، سنّية-شيعية، ولا مشرقية حصراً.
وحتى في حالة الجيوش الوطنية (القُطرية) التي أُعيد بناؤها منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، أو التي يتم العمل على إعادة بنائها، فإنها تجسّد دمجاً لإرث الماضي والأشكال الجديدة. فالجيش والشرطة في عراق ما بعد عام 2003 على سبيل المثال، تضخّماً ليصل حجمهما إلى مليون فرد، فيضاهيا قوتهما في أوج حكم صدّام حسين، ولكنهما الآن مبنيّان هيكليّاً ويعملان وظيفيّاً على أساس منطق طائفي إثني مختلط. ويمكن قول الأمر نفسه عن محاولات بناء جيش ما بعد ثورة عام 2011 في ليبيا. وتجابه عملية إعادة الهيكلة العسكرية اليمنية معضلات مشابهة. ومهما ستكون نتيجة النزاع السوري، فإن الجيش سيختلف جذريّاً عنه في السابق من حيث الشكل والتركيب.
إن مجمل هذه الأشكال العسكرية المدمجة أو الهجينة لن تكون أكثر استقراراً أو صلابة من الكيانات السياسية الجديدة التي يتخيّلها أو يطمح إليها الجهاديّون السنّة والشيعة أم المطالبون بالفيديرالية في اليمن أم في شرق ليبيا. ولكن يترتّب على كل مَن يريد مقاومة أشكال بناء الدولة الناجمة عن الحروب العربية الجديدة، أن يعمل بالعزيمة نفسها على وقف استخدام القوة العسكرية المنظمة ضد المجتمعات العربية، إذ إن ذلك هو ما يؤدي إلى تفكّك دولها القائمة. التحوّل الاجتماعي-الاقتصادي قائم، ولا يجدر مقابلة التحديات السياسية الناشئة عنه سوى بالحلول السياسية.
* باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط
الحياة