الحرية لا تتجزأ
سليمان تقي الدين
إذا كانت المسألة الأساسية التي تواجهنا، في رأي البعض، هي «التلاعب الإمبريالي الغربي بمصائرنا»، فإن السؤال البديهي هو: لماذا نشكل هدفاً سهلاً لهذا التلاعب ولماذا نفتح شهية الآخر على مثل هذه المطامع؟
كنا وما زلنا منذ قرون عدة مجتمعات جاذبة للمطامع الخارجية، مرة لأننا لم نواكب الثورة الصناعية العالمية، ومرة لأننا لم نواكب الحداثة السياسية، ومرة لأننا أقمنا الاستبداد نيابة سالبة لإرادة الناس وحرياتها ومشاركتها.
في التاريخ الحديث قاومنا الاستعمار والإمبريالية وطردناهما من ديارنا، وكان لحمنا ودمنا أقوى من الفولاذ. لكننا لم نكتسب بعد قوة المجتمع الغربي لا في إنجازاته المادية ولا في إرثه الثقافي وتنظيمه السياسي وإدارته. هذه الفجوة التاريخية تضعنا مرة أخرى في مرمى المطامع والمصالح الإمبريالية وتجعلنا أمام عدو مثلث الأبعاد، الخارج والأنظمة التي تحكم جزءاً كبيراً من هذه المواجهة، والثقافة السياسية المشوهة والمخثرة من تاريخ طويل تحت الكبت والتهميش.
خرجت الشعوب العربية في طلب التغيير بما لديها من وعي نتج عن واقع مزدوج، حداثة جزئية قصرت نتائجها على نخب سياسية واجتماعية، وثقافة سائدة عاشت في الظلام السياسي والاجتماعي. ليس صحيحاً أن الأزمات تم استيرادها من بيئة إلى أخرى ولا الثقافات والحراك السياسي. ما يخص العالم العربي تيارات متناقضة يجمعها اليأس من أوضاع مزرية أشبه بحالات الحصار من كل جانب.
خلال عقود ساد فيها ركود قاتل اختمرت ثقافات وظهرت تيارات قام معظمها على مقولة العجز والفشل والإخفاق. لم يختبر العرب الحرية في أي من بلدانهم، ولا اختبروا معنى مشاركتهم في إنتاج حاضرهم ومستقبلهم. كوتهم الهزائم والنكبات ولم تتح لهم فرصة اختيار مصائرهم. اختلفت سجونهم وأبوابها ولم يختلف سجانوهم وهم في كل مكان منشغلون في احتكار القرار والسلطة والثروة والمبادرة. لا وجه للغرابة في ما صار سائداً من أشكال العنف الذي تغذّى من الهدر المستدام للكرامة الإنسانية وقيمها ومعانيها وحقوقها. كما لا وجه للغرابة أن تكون ممارسات الإلغاء المتبادل قد انحطت إلى أشكال بربرية وحشية لا يمكن فهمها أو استيعاب وقائعها في العصر الحديث. فليس أقسى من الظلم الإمبريالي إلا سياسات محلية تدمر المقوّمات الإنسانية تحت ذرائع واهية. فلا قضية محقة لشعب تؤدي إلى تدميره، ولا قيمة لبلد يؤخذ أهله بالحديد والنار، ولا مبررات سياسية لإحراق بلد على مذبح صراع الإرادات الإقليمية والدولية. ومن غير المعقول أن الأمور خارج السيطرة وأنها أقدار لا مرد لها، خاصة إذا تعلق الأمر بمصلحة شعب وحقه في أن يختار إدارة مختلفة لشؤونه. فلا نظن أن أي تغيير سياسي مهما كانت طبيعته في سوريا يمكن أن يؤدي إلى هذه النتائج المأساوية ويفقد سوريا لزمن طويل الكثير من مقدراتها الإنسانية والمادية. ولا يزال النزف في سوريا مفتوحاً على مسرح أوسع ويستدرج قوى أكثر إلى هذه المحرقة. ومن أغرب ما نسمع عن «السلاح والتسليح» كأن ذلك واقعة معزولة عن المأزق السياسي والرغبة الجامحة للقوى الفاعلة في خوض المواجهة حتى الرمق الأخير. وكم سمعنا عن «أصدقاء سوريا» أو «حلفائها» ولم نجد جهة تبحث بصدق عن حل سياسي في مصلحة الشعب السوري.
فلا الأمم المتحدة استطاعت أن تلجم العنف ولا أن تساهم في حد أدنى من حماية المدنيين، ولا الغرب أمّن حماية رادعة لأصدقائه، ولا الروس قدّموا درعاً واقية لنظام يتوغل في الدم ويتوغل في استنفاد قدراته العسكرية بداية ثم احتمالات البقاء فوق الحرائق والدماء.
لعلنا لا نستكمل الصورة إلا إذا لاحظنا تحفز بعض الأطراف في لبنان وغداً من العراقيين والفلسطينيين للانضمام إلى محرقة الأحجام الطائفية. فمن البؤس الاعتقاد أن معركة سوريا هي نهاية المطاف ونهاية التاريخ، واللعب فيها كالشوط الأخير.
إن في سوريا قضية شعب من حقه أن يختار بنفسه ما يشاء وألا يكون محل رهانات سياسية من أطراف أخرى.
تريد الشعوب حريتها. والحرية لا تتجزأ.
السفير