الحزب الشيوعي اللبناني وإحراجات الانتفاضة في الجوار
بشير هلال
يجمع الحزب الشيوعي اللبناني في الادراك العام بين صورة الحزب الباحث عن استعادة موقع مفقود بلغ قمته «الجماهيرية» وذروة قوله «الاستقلالي» في حرب السنتين، وبين صورة انخراطٍ متردد في علاقات تطوّقه وتجعله محدود الأثر بين قوى «الممانعة والمقاومة» التي يتولى معها، وفق زعمٍ يجمعهما، التصدي للمؤامرة الاميركية الصهيونية الدائمة لإخضاع المنطقة وتقسيمها والتي يعتبر لبنان ساحة رئيسية فيها. ما يدفعه غالباً إلى استنباط أشكال تعويضية احتفالية كمثل قيام بعض شبابه في تظاهرة أول أيار (مايو) الأخيرة بنزع علم الاتحاد العمالي العام عن مقره ورفع علم الحزب الاحمر مكانه، وإعلان أمينه العام النية لإنشاء «مركز نقابي يساري مستقل».
ولم تأتِ الانتفاضة السورية بما يُسهِّل لقيادته الخــروج من الجمع السلبي بين الصورتين. على العكس فاستمرارها، على رغم القمع الدامي، جاء بمثابة إعلانٍ غير مرغوب عن تفسخ النظام العربي الوحيد الذي كان الحزب يعده من أعمدة تحقق خطه السياسي وصدقيته العملانية، على رغم كدّه في تسجيل مسافة محدودة منه عبر نقد مبدئي من دون مفاعيل عملية للَبرلته الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة وتعاظم الفساد الذي صاحبها. ولم تكن قيادة الحزب قبل الانتفاضة تخفي العلاقة السياسية به على رغم إبراز نقدها الظاهرتين المذكورتين، من دون النظام نفسه، لغايات تثبيت شرعيتها وإظهار اصطفافها في تاريخ الحزب ولبنانيته كما صارت بعد إعلان «حيادها» بين 8 و14 آذار بعد اغتيال الرئيس الحريري ثم انسحاب الجيش الاسدي، ولمراعاة اتهام عديدين وبينهم شيوعيون للنظام وحلفائه بجريمة اغتيال جورج حاوي قائده المستقيل من أمانته العامة عام 1993 ومن رئاسة مجلسه الوطني عام 2000 والمُستقال لاحقاً من القيادة الفعلية.
وعلى رغم ذلك، ألقى أمينه العام محاضرة في مكتبة الأسد بدعوة من وزارة الاعلام عام 2007 أتبعَها بلقاء على رأس وفد حزبي مع الأسد الابن في 26/9/2008 قالت وكالة «سانا» إنه ثمَّن خلاله «مواقف سورية بقيادة الرئيس الاسد الداعمة للمقاومة والحقوق العربية وحرصه الشديد على أفضل العلاقات مع لبنان».
وبالتالي لم يكن في أدبيات الحزب وتصريحات قادته وافتتاحيات «النداء» التي صارت مجلته المركزية نصف الشهرية، بعدما كانت يومية، ما يوحي بتوقع الحدث السوري ولا باعتباره ممكناً. فهاجسه باستمرار هو التآمر الأميركي على رغم الضربات المُكالة له وفق هذه الأدبيات، واعتباره النظام السوري حلقة مركزية في المقاومة والممانعة. وهذان كان يمكن أن يُتيحا له تخيل ضربة خارجية وليس هبّة داخلية، بخاصة بعدما اعلن أن الثورات العربية الأولى تؤشر لعودة «مركزية» المعركة ضد اسرائيل ومشاريع الهيمنة الاميركية والانظمة العربية التابعة وغير الممانِعَة لأسبابٍ سياسية وطبقية.
يقال ذلك على رغم معاينته الفساد المستشري ومعرفته بديكتاتورية خبر آثارها على لبنان وعليه، سواء أيام الحركة الوطنية والتحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات أو بعدما تمَّ ترويضه وإشراكه في المعركة ضدهما لاحقاً في طرابلس وسواها، او خلال مقاومة الاحتلال الاسرائيلي عندما أُجبر على ترك ساحتها لاحتكار «حزب الله» تحت ضغط مقتلة قياداته (مهدي عامل وحسين مروة ورفاقهما).
لكن الحزب فضَّل على المعاينة والمعرفة المتوافرتين في تجربته أن يَرُد باستراتيجية من شقين:
الاول، علني وهو موجه للتداول السياسي العام كموقف مبدئي يتضمن التمييز على جبهات ثلاث:
– بين معارضة «وطنية ديموقراطية» وأخرى مرتبطة بمخططات الخارج،
– وبين «الرئيس الأسد» وحكومته مقابل «المستفيدين من الفساد والحالة السابقة»،
– وبين النظام وتحالف قوى القمع مع «قوى التبعية للنيوليبرالية».
وهو موقف «تطور» بعد سنة من المجازر والقمع إلى انتقاد ومساواة نتائج الحل الامني بـ «الاستقواء بالخارج»: الجلاد بالضحية.
الشقّ الثاني تحتي موجه إلى القواعد وبخاصة عبر مجلة «النداء»، ويجرى فيه تسويد صفحة قوى الثورة وأعمالها سلاحاً وعنفاً وسلفية وارتباطاً بقوى اقليمية ودولية عاملة على تفتيت سورية وجعلها عاجزة «عن ممارسة دورها في دعم الشعبين اللبناني والفلسطيني». وفي العدد 184 من المجلة يكتب محمد عبدو عن مؤتمر اصدقاء سورية: «أما مؤتمر «ايباك الثاني» الذي عقد في اسطنبول فكان برئاسة كلينتون، وبعد انتهاء أعمال هذه «الشركة» وقفت كلينتون وصرخت: «لن نسمح لبشار بإسقاط المعارضة». والمعارضة هنا تعني إسرائيل وفيصل وحمد العربي وصولاً إلى غليون وجعجع وغيرهم».
خطابٌ موجه لتفسير انهدام محور أساسي في العملانية المفترَضة لشعاراته ولتجنب آثاره السلبية على تنظيمٍ غدا ترسبياً بالمقارنة مع حركية السبعينات أياً كان تقويم حقيقتها ومآلاتها، ويعاني ضموراً انتخابياً (اصواته في 2009 اقل من نصفها سابقاً) وسياسياً وحساسيات جيلية وبرنامجية مع شبيبته المتجمعة في «اتحاد الشباب الديموقراطي» الذي نظَّم وقفة احتجاجية على اعتقال المناضل والكاتب سلامة كيلة من جانب الامن السوري والذي تتفارق ديناميته اليساروية الفائضة مع نمطية الجهاز. وهو حال الهيئات النقابية القليلة الفعالة التي يملك فيها تأثيراً ملموساً كرابطة اساتذة التعليم الثانوي التي يقول رئيسها وعضو مكتب الحزب السياسي حنا غريب في مقابلة مع موقع جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية: «وضع الحزب يجب ألا يستمر على ما هو عليه، نحن بحاجة إلى إعادة بناء الحزب، تفعيله، تطويره وتحسين أدائه وإعادة الحياة الديموقراطية الحقيقية إليه، الخط السياسي وحده لا يكفي، واذا لزم الأمر يجب إعادة التفكير في هذا الخط، لقد جرب مراراً ومن دون نتيجة».
وكان للحدث السوري أن يبدو أقل خطورة عليه لولا استراتيجيته التحالفية مع «حزب الله» الذي يحصر نقده له بعدم جذريته ضد النظام اللبناني وأيديولوجيته الدينية، ويعاني من احتكاكات بين قواعدهما في بعض قرى الجنوب لأسبابٍ بلدية ومحلية ورمزية كتماثيل شهدائه وأحياناً لعدم تقيد أعضائه بالتحريمات الدينية وتوابعها.
كل ذلك يحيل إلى مسألة أخرى تكاد تشكل سياق حياة الحزب المديدة، هي انخراطه البرنامجي واصطفافه في مشروعات مُفارِقة للواقع لا يملك أدوات تحقيقها ولا مفاتيح تحليلها مما يجعل كل نجاح محطة موقتة تنهدم بتناقضاتها الداخلية أولاً، وبحاجات تفرضها وتأسره تالياً.
الحياة