الحسكة: شارع العشق قبل تدميره
عارف حمزة
لا يعتبر شارع العشق، أو العشّاق، وهو وصف مجازي لشارع المحطة في قلب مدينة الحسكة، مثل إخوته من الشوارع في مدن مثل حمص أو دير الزور أو درعا… التي أصبحت تحت الأنقاض الآن، بدل أن تكون تحت دعسات الأحذية التي تحمل أجسادا ً ترتجّ بسبب النظرات التي تهطل عليها كقطن أبيض.
يبدأ من خاصرة شارع القامشلي ويمتد باتجاه الغرب كي ينتهي بمحطة القطارات. الشارعُ الذي ربّى أجيالا ً كثيرة في الحب واللوعة والهجران. وصاروا يذكرونه في أغنياتهم وأحاديثهم ومناماتهم أو في كهولتهم الضيقة في بلاد الله الواسعة والبعيدة.
شارع تقصّه أشجار الأكاسيا والصنوبر من منتصفه، وعلى جانبيه تمتد البيوت التي تدلّ على محافظة بأكملها في تنوعها الدينيّ والعرقي ؛ فالجانب الأيمن يبدأ ببيوت حارة الأكراد، الذين مزجوا من عامودا أيام الفرنسيين، ويتقدم حاملاً بيتين من آل السادة الأشراف، لينتهي ببيوت المسيحيّين الذين يحتفظون بألق بشرتهم وروائحهم وعيونهم ولو تحوّلت هذه المدينة، كما كُتب لها وعليها في مدونات البعث، إلى صحراء.
الجانب الأيسر يحمل بيوت الديريين من سكان الحسكة الأصليين وبيوتا ً لأهل السلميّة وحمص وطرطوس واللاذقية… الذين جاؤوا للعمل هنا فنسوا العودة إلى مدنهم إلا عند الزواج أو لدفن موتاهم.
بيوت خفيفة في البداية مثل نمش في الوجه. ثم عمارات وفلل في الوسط والنهاية لتكتمل باقي الأعضاء.
قبل سبع سنوات افتتح سناك بار كوين (الملكة) في منتصف الشارع تقريبا ً، حيث ينزل لها العشّاق بسبع درجات من الرخام الورديّ. وعلى الرفوف تراقب زجاجات البيرة والويسكي اختناق الكلمات في الصدور المقشورة بإتقان. لتكون حجة واهية لتلامس الركب المصقولة تحت الفساتين القصيرة وبناطيل الجينز الضيّقة. وقبل ثلاث سنوات سيُفتتح سناك بار آخر وأخير يحمل اسم بابلز (فقاعات) ويقدم، مع عائلة السناك بار القديم، الوجبات الخفيفة والأركيلة التي تتفنّن الصبايا في إيجاد التوازن بين تدخين معسلها، ذي النكهات، والنظرات الناعسة التي تخرج من الشفاه النافخة لولع المتعة المحجوبة بحجّة التدخين. النظرات لا تلتصق بجدران كبيرة من الزجاج، بل تذهب لتمس وتربّت وتداعب وتلمس وتدهس الناس الذين يتمشّون بثياب الأحد تحت عناية النظرات.
في كلّ أحد تأتي الفتيات المسيحيّات من قداس العصر في الكنائس إلى هذا الشارع، كي يشرفن على القرابين المنتظرة من الأكراد والعرب والشبان المسيحييّن. اللباس الخفيف يميّزهنّ حتى لو كانت هناك عاصفة. حتى لو كان هناك مطر أو بَرَد. لا يتركن أمور الأقدار للصدفة، بل يرسمن جيّدا ً رموشهن وشفاههن كفنّ رفيع، وليس كعمال طلاء، ويرمين فوق الفتنة التي تمشي روائح تمّ إنعاش الكنائس بها أثناء القداس.
ليس الشباب وحدهم من استنشقوا هذا الإرهاب الجمالي وعبدوه. بل الفتيات الكرديّات والعربيّات تعلمن الحياة على أيديهن البيضاء، فتحولوا من عاملات طلاء ودهان إلى محترفات مكياج وبشرة وعطور، وخرجن من كنائسهن الصغيرة إلى الشارع الكبير لمساعدة معلماتهن في قتل الناس باللوعة والغرام.
الفتنة تأمر وتنهي. والناس تقودها الأنفاس وليس الأقدام. الأقدار تُكتب في الشارع الطويل، وليس في غرف مقفلة يحيطها الخوف.
ينتهي الشارع بحديقتين كبيرتين على الجوانب، حيث الأشجار ما زالت مطعونة بسهام الحب والأحرف الأولى حول القلوب الحمراء المطعونة أيضا ً على عجل.
محطة القطار تغيّرت. ليس كمكان للسفر، فقد تحجّرت هذه الفكرة فيها، بل كمكان للحب. كان المقصف فيها يقدم البيرة المثلّجة مع سندويشات خفيفة لقلوب ثقيلة، ثم ينتشر العشاق على رصيف المحطة كمودعين للقلوب الفارغة.
قبل عشر سنوات توقّفت خدمة البيرة في المقصف، فصار الشباب يجلبونها في علب معدنية تسخن في حقائب اليد الجلديّة للحبيبات. علب البيرة التي يتفاجأ بها عمال النظافة وهم يُفرغون الحاويات من لا شيء غيرها، سوى المناديل الملوّنة بأقلام الحمرة والدموع. العلب التي يأتي القطار فيجعلها تتطاير حول جانبي السكة فجأة كحمام فزع من هذه الأفعى المعدنيّة الكبيرة.
النازحون، الذين جاؤوا من مدن تقصف بالطائرات والمدفعية، يأتون في كل أحد إلى هذا الشارع كي يغسلوا عيونهم من المرارة والحرمان. كي يُنعشوا قلوبهم بالمخدّر الأزليّ للجمال. يأتون كأنهم ذاهبون للحياة التي ضاعت منهم في شوارع مدنهم التي سُحقت بالدبابات.
اضطرت بلدية المدينة، في كل أحد قبل سنوات، أن تمنع السيارات من دخول هذا الشارع، كي لا يُخدش السائرون المنوّمون في الغرام، وربّما كي يظهر السبب الواضح للقتل من دون دماء أو حوادث.
شارع العشّاق هذا يقع في حي المطار، حيث يقول الأقدمون بأنه كان عبارة عن حقول من القطن. لم يتغيّر شيء إذن. ما زال القطن في المكان. ينبت ويُسقى ويُعبأ في أكياس القطن ثم يأخذنه إلى المحلجة. ما زال قطن الفتيات الصغيرات يحمرّ تحت عيون الشباب، والإضاءة البرتقاليّة للشارع الذي يمتد لمئات الأمتار، ويُسقى بضربات القلوب والغزل والوعود المكويّة بنار الهجرة، ثمّ يأخذ الزواج جسدين قطنييّن إلى محلجة البيت .
بيتي يقع قريبا ً من هذا الشارع. خمسون خطوة فقط وأصبح في قلب المعركة الغريبة للألوان والأجساد والكلام والنظرات والآهات.
أكتب عن هذا الشارع قبل دماره القادم. أكتب عنه كمن يكتب عن أهله الذين سينزحون.
(كاتب سوري)
السفير