الحسم الممنوع
أحمد جابر
لم تخالف يوميات الميدان، السورية، ما توقعه قليلون حول الوجهة المرجحة لتطوراتها، بل هي خالفت آراء الأكثرية، التي توزعت بين معارضة النظام، وداعميه، أولئك الذين توقع كل منهم حسماً سياسياً وميدانياً سريعاً، في صالحه، فكانت العجلة قائدة للتحليل، بدل أن يكون التأني دليلاً مرشداً للخلاصات والأحكام.
القلة القليلة التي رجحت انزلاق الوضع السوري، ودخوله في أتون الحرب الأهلية المديدة، بنت توقعها على عناصر أساسية منها: طبيعة بنية النظام التي تمسك بزمام الوطن السوري، وطبيعة “المعارضة” الناشئة، التي تحكمت بحاضنتها الاجتماعية سنوات القمع الطويلة، وحساسية الموقع الجغرافي السوري، الذي يقع على تماس ملتهب مع فلسطين والعراق، وعلى جوار قلق مع الأردن ولبنان، هذا بالإضافة إلى الدور الوظيفي الذي أداه النظام الذي أرسيت دعائمه بدءاً من تاريخ “الحركة التصحيحية”، مطلع السبعينات، عندما أطاح الرئيس الراحل حافظ الأسد برفاقه الثلاثة، نور الدين الأتاسي، ويوسف زعين، وصلاح جديد.
هذه المعطيات، من داخل النظام ومن خارجه، تفسر التماسك الذي ما زال يقول أن النواة الصلبة التي تدير الصراع العام، ليست معزولة داخل شرنقتها، وأن ما يضيف إلى صمودها هو عدم تماسك معارضيها، وأن ما يضع “الخارج” في خانة التمهل “والتأمل”، هو عدم نضوج الوضع الداخلي، بحيث تظهر في الأفق وجهة غالبة، تعطي الدليل الأوضح على المستقبل الممكن لسوريا. الضبابية الداخلية، تقدم الذريعة للغرب المراقب خاصة، بحيث يبني تردده عليها، وبحيث يبقي ورقته السياسية الأخيرة، مستورة بهذه الضبابية.
ضمن هذا الإطار العام، تعين التطورات الميدانية، ضمن منطقة القصير وريفها، على رسم خطوط عامة للنقاش، وتفتح الباب أمام أسئلة أساسية، من شأن الإجابة عنها ملامسة ترجيح عام، لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في سوريا، أقله في المستقبل القريب المنظور.
الخلاصة الأولى التي يخرج بها المراقب لتطورات معركة القصير، توحي في الظاهر، أن “التهديد الغربي” معلَّق حتى إشعار آخر. لقد ربط “الغرب” وتيرة تصعيد دعمه “للمعارضة السورية”، بارتفاع وتيرة القمع، وتهديد حقوق الإنسان، واستخدام السلاح الكيميائي. لقد أسقطت الميدانيات السورية جدية التهديد هذا، عندما قالت للغرب أن ما اعتقدته غير مستخدم ها قد استخدم، لكن وضوح “المقتول”، لم يقلق، ولن يقلق، ضمير الذي أوحى بالسماح بالحرب الأهلية في سوريا، ما دام النظام يريدها، وما دامت “السلمية” مستحيلة، في ظل ارتفاع منسوب الدم، الذي غطى الجغرافيا المدنية والسياسية.
في السياسة كان الأمر أوضح، إذ بالفم الملآن قالت إيران أنها لن تسمح بسقوط النظام، وبالأجساد “الناطقة” دخل حزب الله اللبناني على خط القتال المباشر، وروسيا ما زالت ملتزمة بتنفيذ كل صفقات السلاح المتفق عليها سابقاً. لم يحرك الغرب ساكناً هنا أيضاً، وخطواته الخجولة لم تزج سرعتها في سباق مع السرعة الميدانية في سوريا، والمواقف السياسية الغربية لم تضج مهددة بالخطر الذي يمثله الدخول الإيراني وملاحقه، إلى الحلبة السورية. ما زال الكلام الحذر الهادئ سيد الموقف لدى الدول والقوى التي “آزرت” قوى الاعتراض السوري،وما زال الضغط، الذي انتظره كثيرون، حبيس إستراتيجية المعنيين، الذين يبنون حساباتهم وفق مصالحهم السياسية، وليس وفقاً لنداءات الاستغاثة الإنسانية.
إذن، الانتظار الغربي سياسة، وهذه مناسبة للقول: أنه من الخطأ بناء الخطط السياسية على “يقين” الترياق القادم من أميركا وأوروبا وسواها. كذلك فإنه حريٌّ بالمتابع أن يلاحظ أن السماح بما جرى في القصير حتى الآن قد تمتد مظلته لتشمل ما هو أبعد منها، وهنا تحضر أسئلة من نوع: هل سيسمح لمعركة القصير بأن تأخذ مداها الإستراتيجي المقرر لها. مع ما يعنيه الأمر من ربط للحدود اللبنانية بالعمق السوري، حيث معاقل النظام؟ وإذا حصل ذلك، ما المقابل؟ هل تظل منطقة حلب جغرافية محرمة على الحسم العسكري، مع ما يعنيه ذلك من دور تركي هناك؟ واستطراداً، ما وضع الجنوب السوري، وهل تظل درعا ومنطقتها خارج السيطرة الكاملة للنظام، مع ما ينطوي عليه ذلك من دور أردني له خلفيته الخليجية؟ وإلى ما تقدم، هل تعطى القوى المعارضة من الدفع ما يكفيها لتحقيق الأرجحية ضمن هذه المنطقة، وما يبقيها في موقع القدرة على المناوشة في مناطق التداخل العسكري غير المحسومة في دمشق وريفها مثلاً؟
الإجابة الأولية، تقول أن لا حسم ممكناً في الأفق لوجهة تعامل ما، من قبل الذين يديرون الأزمة السورية، والإجابة الرديفة تقول، أنه إذا كان الحسم ممنوعاً، فإن إدارة إنضاج الإهتراء السوري هي المرجحة. هذه العملية تتطلب زمناً، لا يضير مصلحة المتلاعبين، لكنه بالتأكيد، يصيب مصير المتصارعين، فيدفعون من دمائهم أغلى الأثمان.
المدن