صفحات سوريةطيب تيزيني

الحكمة ومصير الوطن

د. طيب تيزيني
عاشت سوريا ولا تزال، تعيش محنة لعلها العظمى في تاريخها، فما مرّ بها في العِقد الأخير خصوصاً يعتبر -في المقاييس العالمية- مأساة تهز الضمير الإنساني بكيفية مرعبة. وأنْ يحدث ما حدث، يعني أن الإنسان في ترتيبه الحضاري وبوصفه إنساناً عاقلاً، لا يزال دون مستوى العقلانية الحكيمة، أو أنه قابل، حتى الآن، للتراجع إلى مستوى يُفترض أن يكون قد خرج منه. فالوعي الذي ندعوه “وعي المطابقة” بين الواقع العيني وما يقابله من منظومة للمفاهيم البشرية الدنيا الضرورية التي يحوز عليها البشر، إن ذلك لابدّ أن يقود البشر إلى حدٍ ما أوّلي من التوازن والعقلانية والحكمة، والمعيار في ذلك أن يظل البشر مُتمتّعين بإمكانية اكتشاف أن السّير في قلب غابة حارقة، ينبغي أن يظل آمناً، بالحد الأدنى، أي أن يحول دون الاشتعال بالنار.
ما حدث في حمص وغيرها من مدن سوريا مؤخراً، كان مشهداً لا يجوز أن يُسمح به. وربما نقول، إن السماح بإشعال النار القاتلة هو سماح مُدان بجعل دم السوري مستباحاً، من هذا الطرف أو ذاك، خصوصاً حين يحدث ذلك بآليات وأدوات لا يجوز أن تظهر إلا في وجه العدو التاريخي الاستراتيجي، والكل يعرفه! وإذا تعذر ذلك ضمن منظومة التفكير التي نمتلكها، فإن البحث في الفكر السياسي القائم على قواعد مفتوحة ومحتملة وقابلة للاستنباط والاجتراح، كما على المساومات والتنازلات، لابد أن يفضي إلى المحافظة على وطن يجري القتال على أرضه ويُدفع الثمن من حسابه. وما كانت السياسة قد غابت بل غُيِّبت من الحياة العامة والخاصة في سوريا على امتداد ما أصبح في رسم نصف قرن إلا قليلاً، فقد كان من طبائع الأمور أن يدخل القطر السوري الجميل في نفق مُعتم، لقد غاب الخطاب السياسي، وفُتح الباب على مصراعيه أمام ما قُدِّمت بصفتها حلولاً “مستحيلة أو زائفة”، لقد وُضع البلد أمام طريق سوفييتي تحت مادة تحمل رقم 8 من الدستور: إنه حق كلي وصائب أبداً، أن يكون طرف واحد من أطراف المجتمع السوري، سيد الموقف، من حيث هو، في الاقتصاد والثقافة والتعليم والقضاء والاستراتيجيا، ذلك أنه هو الذي “يقود الدولة والمجتمع”، هكذا إلى الأبد. وبهذا، يكون “الحزب القائد والزعيم القائد”، أول الموقف ومُنتهاه، الآن وغداً و”إلى الأبد”.
أما ما يمكن أن يُنشئه تطور المجتمع من تغيرات هنا وهناك وفي هذا الجيل أو ذاك، فإنه يبقى مُغْلقاً، أي غير مهيّأ لأن يُنتج تقدماً وتغيراً وتحولاً باتجاه الأمام. ذلك لأن من يُنجز ذلك هو “الحزب القائد الأبدي”، في حين يبقى المجتمع مُجفَّفاً لا يُجدِّد ولا يبدع: إنها أيديولوجيا طاغوتية سياسياً وأخلاقياً وتاريخياً.
وإذا كان الأمر كذلك، يصبح من المستحيل أن ينزاح الأعلون عن مواقعهم، حتى لو أجهزوا على المجتمع والدولة بآخر رصاصة. والطريف المرعب أن المجتمع السوري المؤسس تاريخياً على التعددية، بمعظم صيغها وتجلياتها، يوضع ضمن قالب واحد أبدي، بحيث إذا طالب الآخرون من الطبقات والفئات والأجيال والمجموعات بالتغيير باتجاه الحرية والتعددية والكرامة والعدالة وغيرها، فإن أولئك ينظرون إليهم بمثابتهم مُجرمين أو عملاء تُناط بهم مهمة تدمير البلد وتنفيذ مؤامرة خارجية كونية. هذا الموقف المضاد للتاريخ والتقدم يمثل خطراً كاسحاً، فالإصلاح والتطوير والتغيير والتجديد هي دعوات هدَّامة، ولم يدْر أولئك أن هذه الأهداف فضيلة، وعليها يتأسس التاريخ المفتوح، وتحقيق ذلك يتوافق مع الحكمة والعقلانية.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى