الحكم المدني: من أمان الخرافة إلى الثقة/ إبراهيم غرايبة
أطلقت مجموعة من الأردنيين قبل عشر سنوات جدلاً حول الملكية الدستورية والدولة المدنية، وبدا الأمر حينذاك انشقاقاً وطنياً، لكن «الربيع العربي» أعادها أفكاراً عادية يومية، ثم نشر الملك عبدالله الثاني باسمه ضمن سلسلة من الأوراق المنشورة، ورقة نقاشية في عنوان «سيادة القانون أساس الدولة المدنية»، وقد بدا الأمر على نحو عفوي (ربما) منسجماً مع تطور المراجعة والنقاش الحاصل في الأردن وفي عالم العرب حول تحديات الإرهاب والصراع الأهلي، والإجماع على أن مواجهة التطرف والإرهاب ليست فقط عمليات أمنية لكنها عقد اجتماعي يتوافق عليه جميع المواطنين على أساس العدل والحريات ورفض الكراهية بما هي الجذر المؤسس للتطرف والصراع والإرهاب.
لكن مفهوم «الدولة المدنية» اكتسب فهماً غامضاً، واتخذ الجدل حوله اختيارات انتقائية تبدو ملائمة للمتجادلين، وصارت «المدنية» يفهمها كل تيار أو مجموعة على أنها «هو» كما هو، من دون محاكمة للذات على أساس متفق عليه للحكم المدني، أو محاولة لبناء ميثاق أو عقد اجتماعي يظلل جميع الأطراف، وتحتكم جميعاً إليه.
أظن أن عبارة «الدولة المدنية» غير صحيحة أو غير دقيقة، والصحيح أن يقال الحكم المدني. وربما يكون الفارابي قدم فهماً مبكراً ورائداً للمسألة في كتابه «السياسة المدنية»، وتبدو تسمية الكتاب كافية ومحملة بالمعاني، ثم قدم جون لوك (1632 – 1704) كتابه الشهير «الحكم المدني» المؤسس للقيم السياسية الليبرالية، ومن المهم جداً الإشارة إلى أن كتاب جون لوك جاء في سياق صراع سياسي وأهلي طاحن في إنكلترا، استمر عقوداً عدة حتى اشتغلت عام 1688 ما يسمى اليوم «الثورة المجيدة» وتوجت بقانون الحقوق المدنية المتضمن أربعة مبادئ: حق الملك في التاج مستمد من الشعب الممثل في البرلمان، وليس من الله، وليس للملك إلغاء القوانين أو وقف تنفيذها أو إصدار قوانين جديدة، إلا بموافقة البرلمان، ولا تُفرض ضرائب جديدة، ولا يُشكّل جيش جديد إلا بموافقة البرلمان، وحرية الرأي والتعبير في البرلمان مكفولة ومُصانة.
تعني كلمة «المدينة» القانون أو العدل، وفي العبرية «مدينات إسرائيل» أي دولة إسرائيل، وتطلق على الإقليم الذي يحكمه القانون على أساس العدل والمساواة، أو هي مدينة أهلها الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم بلا حق أو ميزة لأحد من أهلها. سواء كان هذا الحق مستمداً من السماء (حق إلهي) أو حقّاً طبقياً أو حقّاً غير طبيعي، لا حقّ لأحد إلا برضا الناس، أو اللامساواة القائمة على قواعد عادلة يرضاها ويقبل بها أهل المدينة (الدولة) أو ما صار يسمى العقد الاجتماعي.
وعلى أي حال، فإن الحكم المدني يقتضي بالضرورة نظام حكم يتساوى بموجبه جميع المواطنين أو كما في النص الدستوري «الأمة مصدر السلطات»، وتنظم شؤونها على أساس العدل – القانون والحرية والمساواة، وتقدر هذه المبادئ على أساس العقل كما تراه غالبية الناس إن لم يكن جميعهم ما يعني بالضرورة أنها تقديرات خاضعة للمراجعة والتصحيح وليست مقدسة وما يعني أيضاً أن الآراء المخالفة للغالبية (الأقلية) تملك الحرية الكاملة مثل الغالبية وفرصة أن تكون غالبية في جولة أخرى من المراجعة أو التعبير أو التصويت أو الاستفتاء. وليس من الحكم المدني أن يكون لأحد أو فئة من المواطنين حق إلهي أو حق طبقي، ولا تمييز إيجابي أو سلبي لأحد أو فئة على أساس الدين أو اللون أو العرق، أو الجنس، وليس لها دور ديني، أو تقف مع دين أو ضد دين.
ويبدو مدهشاً في الأردن أن جميع التيارات التي تدعو اليوم إلى الدولة المدنية بما فيها الإسلامية لا تلاحظ أنها تدين ذاتها، لكنها كلعا ترى نفسها صاحبة المشروع.
* كاتب أردني
الحياة