الحلم لملء فراغات الواقع
مها حسن
وُلدت في بيئة ميتافيزيقة، تؤمن بالغيبيات، بقراءة الفنجان، والتفسير الشعبي الشفهي للأحلام. كان لديّ متلازمة صباحية، بأن ألجأ إلى أمي، باعتبارها مصدري الرسمي للتفسير، في كل صباح: شو يعني الميت في المنام؟ شو يعني البكاء؟ …الخ. وكانت تفسيرات العرّافة أمي تأتيني دوماً موافقة لرغباتي، فالموت هو الولادة، والبكاء هو الفرح، والولادة خبر،… ولأن مناماتي غالباً كابوسية مبنية على الخوف والضياع والمطاردة … فإن تفسيرات أمي، كانت دوماً مشجّعة للذهاب طوعياً ربما إلى هذا النوع من الأحلام القاسية، لتخفيف قسوة الواقع، عبر تصديق رموز الحلم.
لاحقاً، خرجت من مدرسة أمي لتفسير الأحلام، وطوّرت مرجعيتي، فذهبت، كما يفعل أغلبنا ربما، إلى أول خطوة علمية، أي لدى السيد فرويد.
قرأت تفسير فرويد للأحلام، واستمتعت بتواطؤ اللاشعور، وهو يقدّم لنا وجبات لذيذة، عبر تحوير رغباتنا وتحويلها، كما استمتعت بلعبة الرموز التي تشبه فكّ المعادلات الرياضية أو اللعب بالألغاز، عبر الغوص في تحليل مناماتي.
من مبدأ أن الحلم، هو تحقيق أمنية، وفق فرويد، كنت أنقّب عن رغباتي الخفية، وسط مناماتي، أستمتع بفك شيفرات حلمي، كأنني أتعرّف عليّ وأكتشفني في كل حلم.
أعترف بأنّني كائن ميتافيزيقي، وهذه الصفة، أثرت عالمي الروحي، وسهّلت عليّ حرية الكتابة، إذ أكتب، كما لو أنني أحلم. وللحلم تواجد كبير في أغلب رواياتي.
طوّرت مهاراتي قليلاً، وذهبت إلى” تفسير الأحلام” لبيير داكو، الكتاب الصادر لدى وزارة الثقافة السورية، والذي يتضمن إضافة للشروحات، بعض المفردات الواردة في الأحلام وتفسيرها، كنت أقلّب صفحات المفردات، باحثة عن مفردتي الواردة في حلمي.
تعلمت قليلاً مهارة تحليل حلمي عبر التفسير الذاتي، محاولة مواجهة “لاشعوري” بوصفه شرطيّ يحاول إخفاء الحقيقة عنّي، ومارست هذا التدرب، عبر كتابة أحلامي.
أثناء تدوين الحلم، كنت أكتشف التفسيرات، وإن كانت اللعبة الجميلة، المتقاطعة، مع جمالية الكتابة الإبداعية، هي تعدد التفاسير. إذ إن الأحلام، ليست كالرياضيات، تحتمل عدة تفاسير، لا يمكن في النهاية حسمها، إلا من قبل الحالم نفسه، لأن اللفظة أو الشيء المحلوم به، يختلف من شخص لآخر، حسب علاقة هذا الشخص بالمحلوم به. فالكلب مثلاً، مخلوق محبب لدي، وفق تفسير أمي، الكلب هو صديق، ووفق تفسير ابن سيرين الكلب هو رجل سفيه، ووفق بعض المراجع الفرنسية هو رمز الأب، أو الإخلاص، أما بالنسبة لي، فهو الحماية المعكوسة. لأن علاقتي بكلبتي، لا تعتمد على أنها تحميني، بل على أنها بحاجة إلى حمايتي. ورود الكلب في منامي إذن، هو كائن يحتاج الي، وهذا مثال على اجتهادي في شخصنة كل منا في تفسير حلمه، وفق علاقته الشخصية بالمحلوم به.
قرأت الأواني المستطرقة الذي سجل فيه بروتون أحلامه، وحاول تحليلها. وحلمت دوماً بتدوين أحلامي، ولم أفعل، بسبب الكسل.
منذ عامين تقريباً، بدأت بفعلها. كان ذلك الحلم، الذي وجدت رسالته الواضحة لاحقاً، سبباً لتدوين أحلامي، إذ دخلت في حالة ميتافيزيقية جديدة، أن لاشعوري، يحميني من الصدمة، فيرسل لي برسائل مبكرة، عليّ التقاطها. وهذا ما قلته لفيرونيك، محللتي النفسية، التي كنت أستمتع بالثرثرة معها، حول الكتابة واللاشعور، إذ قلت لها ذات يوم، جملة وردت في أحد أحلامي، وراقت لي كثيراً: أن الأحلام هي مؤسسة أو جمعية لحمايتي من الواقع.
الرسالة الأولى التي تلقيتها في حلم لي، تتعلق بعمّتي، التي كانت بمثابة أمي الروحية، وأغلى كائن لدي. رأيتها عارية، تُجبر بعيون هلعة، رافضة، على الدخول في نفق ضيق، عارية، نحو حمام مليء بالعراة.
يأتيني تفسير أمي التلقائي، باعتباره أول مدارس تفسير الأحلام التي تتلمذتُ عليها، قبل التنقيب عن غيره من تفاسير، العريّ بحسب مدرسة أمي، هو الموت. رؤية عارٍ في المنام، هي خبر موت.
بعد أيام قليلة، ماتت عمتي. ولكنني نسيت أمر الرسائل.
في فرنسا، جاءت الرسالة واضحة وقوية، إذ حلمت أنه لدي موعد في المشفى، لإجراء تحاليل طبية وجدتني أضيع في المشفى، وأدخل سراديب قذرة ملوثة بالدهن البشري والدماء السميكة وكأنني في مسلخ حيوانات. الحلم طويل ومدوّن في المخطوطة التي أعمل عليها، وهي طويلة الأمد، قد تستغرق عشرات السنوات، دوّنت فيها تفاصيل الحلم المرعب، المقزز.
بعد يومين فقط من هذا الحلم، تعرض أحد أهم الأشخاص في حياتي لأزمة عنيفة، كادت تودي بحياته، وقضيت ليلة حتى الصباح في أروقة المشفى مع الممرضين والأطباء، من طابق لآخر، ومن غرفة لأخرى.
اعتبرت أن ذلك الحلم، بمثابة تنبيه لي، لم ألتقط الرسالة، لكنني على الأقل، تهيأت نفسياً، عبر بشاعة الحلم.فقررت تدوين أحلامي، المهمة، والمميزة.
بدأت بكتاب “لاشعوري” الذي أتحدث فيه عن أحلامي المهمة.
ثمة أحلام فنية أستمتع بها، كأنني داخل فيلم يصنعه لاشعوري، أو رواية يكتبها، وهذه الأحلام بالذات، تتطور في اليقظة، إلى كتابات واقعية، أدبية. حتى أنني أحياناً أذهب إلى النوم، كي أحلم، وأستمتع بفيلمٍ غير منتظر.
الكثير من كتاباتي، وعناوين كتبي، أعثر عليها في الحلم.
أتعمّد أن أحلم، أقود حلمي، عبر التحضّر له في أحلام يقظة سابقة وممهّدة، وغالباً ما أفشل. لكنني أوّفق في عناوين كتبي، التي تأتيني في أحلام تدور بين النوم واليقظة. فأستسلم لتفكير مراقب رخوٍ، يمدّني بالأفكار الجديدة، والكثير من منابع الكتابة.
الأحلام الكبيرة أو الرئيسية، تفتح أمامي طاقات من المخيلة ونبش الذاكرة، كيف تأتيني في الحلم، صورة صديقة لم أرها منذ عشرين سنة مثلاً، لأقوم بجولة معها في شوارع باريس، ونتسوق ونضحك كمراهقتين، وواقعياً لا أعرف عنها أي شيء، ربما هي أم لمجموعة أولاد، ولا يُسمح لها بالخروج دون محرم.
لكن تفسير أحلامي، التي أكتبها، تدهشني، فيكون كل حلم، وتفسيره الذي لا يأتي في اللحظة ذاتها، بل على دفعات، بمثابة نزول خطوة نحو أعماقي، نحو لاشعوري، نحو معرفة ذاتي الخبيئة عني، ومن منّا، يعرف نفسه تماماً!
أعتقد أن الحلم والواقع وجهان لعيش واحد،إذ يتمّم الحلم نقص الواقع، ولو طبقنا الحلم، كورقة أو قطعة قماش، ووضعناه فوق الواقع، لامتلأت فراغات الواقع عبر الحلم، وفراغات الحلم عبر الواقع. الحلم هو قراءة السطور الناقصة للواقع. بل هو نحت وروتوش للواقع، لفهمه أكثر، لتجميله، أو لتقبيحه. الحلم وسيلة لفهم الواقع، وبالنسبة لي ككاتبة، طريق لا غنى عنه، للتأكد من كتابتي، التي يصادق عليها حلمي. أي حلم أدبي يتعلق بكتابتي، هو بمثابة خاتم اللاشعور وموافقتي العميقة على ما أكتب. لولا الحلم، لنقصني الكثير من يقين الكتابة، التي أفتقدها دائماً، ويخفف الحلم من مخاوفي حولها.
مها حسن ـ باريس
السفير