الحل السياسي مسؤولية المعارضة… وبوتين؟
جورج سمعان
لم يكن متوقعاً أن يخرج «مــؤتمر أصدقـــاء سورية» بأكثـــر مما خـــرج. سبقتــه مواقــف كانت إشارات واضحة إلى نتائجه: المسؤولون السياسيون والعسكريون في الولايات المتحدة وأوروبـــا وحلف الـ «ناتو» جددوا رفضهم أي تدخل عسكري. والأتراك لم يرق لهم حتى إقامة «ممرات آمنة» لإيصال مساعـــدات إنسانية خوفاً مـــن تدفق اللاجئين وربمــا لأسباب أخرى! ولـــم يبـــدِ هؤلاء جميعاً استعداداً للاعتراف بـ «المجلس الوطني» ممثلاً شرعياً. بل نادوا مجــدداً بوجـــوب توحيد صفوف المعارضة، وبوجـــوب وضعها برنامجاً واضحاً للمرحلة الانتقـاليـــة. وحذر العسكريون الأميركيون من تسلل «القاعدة» إلى صفوف المحتجين. كما حذروا من تسليح «الجيش الحر».
يمكن النظام في دمشق، في ضوء هذه النتائج، أن يواصل حملته العسكرية لعله ينجح في الخروج من دائرة العنف المغلقة. يمكنه أن يواصل خياره ما دام يعتقد بأن مؤتمر تونس لم يغير شيئاً في قواعد الاشتباك الدولي والإقليمي. وما دام أن خصومه متمسكون بحل سياسي يبدو بعيد المنال في ظل معاندة روسيا وحلفائه الآخرين. ولا بأس من التمثل بالتجربة الإيرانية، واستغلال كامل لعامل الوقت الذي يتيحه ثبات جميع اللاعبين في الخارج على مواقفهم.
المعارضة التي أحبطها المؤتمر كان بعض أطرافها يأخذ على الغربيين المنادين بإسقاط النظام السوري أنهم لم يوجهوا إليه إنذاراً حقيقياً، أي لم يشعروه بجدية اللجوء إلى الخيار العسكري، ولم يرسموا له خطاً أحمر. أنقرة التي هدّدت أكثر من مرة بأنها لن تسكت، وحددت مهلاً للنظام، وحذرت من تكرار «حماة ثانية» لم تفعل شيئاً. بعد هذا لماذا لا يواصل النظام خياره الأمني، تماماً كما تفعل إيران التي لم تثنها لا عقوبات ولا حصار عن إكمال أهدافها من البرنامج النووي ما دام أن الخيار العسكري بعيد، وأن لا سيف مسلط فوق الرأس؟
ويذكر هؤلاء المعارضون بأن طهران تباطأت في برنامجها النووي، بل علقته لفترة، عندما باتت القوات الأميركية على حدودها الغربية إثر الحرب على العراق في عام 2003. خشيت أن يأتيها الدور بعدما وضعها الرئيس جورج بوش في «محور الشر». ومثلها سورية أصيبت بالرعب بعد إسقاط صدام حسين، على حد ما وصفت المستشارة الرئاسية بثينة شعبان. ولكن عندما بدأت المتاعب تواجه الاحتلال الأميركي للعراق، تجرأ البلدان وساهما في تأجيج الصراع في مواجهة الأميركيين. ويذكرون أن دمشق أخرجت قواتها من لبنان بعد نحو ثلاثين عاماً، عندما شعرت بحجم الغضب الذي أعقب اغتيال رفيق الحريري عام 2005. وكانت قبل ذلك، في 1999، رضخت لإنذارات تركيا التي حركت قواتها نحو الحدود وأنهت التوتر مع جارتها الشمالية بتسليمها زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان الذي طالما توكأت عليه لإقلاق أنقرة. وقبل هذا وذاك لم تتجاوز سورية، طوال ثلاثين سنة، «الخط الأحمر» الذي رسمته لها إسرائيل عندما دفعت بقواتها إلى لبنان أثناء الحرب الأهلية في هذا البلد.
لم يشعر النظام السوري حتى الساعة بأنه محاصر. حدوده مع لبنان والعراق والأردن لا تزال مفتوحة. وطرقه الأخرى كلها تؤدي إلى إيران وموسكو والصين. لم ترتفع حوله الجدران كما كانت حال صدام حسين في التسعينات من القرن الماضي. لذلك تعتقد دوائر في المعارضة السورية بأنه كان يتعين على الغرب ألا يغيّب من خطابه احتمال التدخل العسكري. لأن استبعاد خيار كهذا أراح النظام وأطلق آلته العسكرية بلا رادع. فالضوء الأخضر لم يأتِ فقط من «الفيتو» الروسي والصيني. أتى من التردّد الأميركي والأوروبي أيضاً. فلاديمير بوتين رفع شعار روسيا العائدة إلى زمانها الإمبراطوري ورقة في معركته الانتخابية. أعلن مشروعه لإعادة تحديث المؤسسة العسكرية، ولوّح بعدم السكوت على تجاهل بلاده ومصالحها في أية تحركات أو إجراءات دولية وكان يشير إلى سورية وإيــــران. في حين لم يحتل الشأن السوري موقعاً في الحملتين الانتخابيتين للرئيسين باراك أوباما ونيقولا ساركوزي. منذ البداية لم تبد الولايات المتحدة رغبة في التلويح بالخيار العسكري. ليس فقط لأنها لا تريد التورط فيما هي لم تتعافَ بعد من حربي العراق وأفغانستان، ويخوض أوباما حملته وقد بدأ الجنود الأميركيون بالعودة إلى الديار كما وعد ناخبيه قبل ثلاث سنوات ونيف. بل لأن تقارير العسكريين الأميركيين لا تـــرى سهولـــة التدخل كما حصل في ليبيا. بل تحذر من جملة أخطار تتمثل في الحجم الكبير للقوات المسلحة السورية وتكوين وحــــداتها المتجانس اللون وتسليحها الصـــاروخي وانتشارها في بلد صغير المساحة ما قد يعرض المدنيين للأذى في أي حــملــــة واسعة. فضلاً عن الربط المحكم بين الجبهة السورية وجبهتين أخريين ارتبـــاطاً وثيقاً، هما جبهة لبنان حيث «حزب الله» الذي لا ينفك يلوح لإسرائيل بترسانته الصاروخية. وجبهة إيران التي تخـوض الصراع على أكثر من جبهة.
وتخشى واشنطن التي تحاذر حتى الآن اللجوء إلى الخيار العسكري لمعالجة الملف النووي الإيراني أن يؤدي التدخل العسكري في سورية إلى اندلاع الحرب مع الجمهورية الإسلامية. فضلاً عن أنها تدرك كما موسكو أن سقوط سورية في اضطرابات واسعة يعني أن تعم الفوضى جيرانها من لبنان والعراق والأردن وحتى إسرائيل إذا تحرّكت قوى تساند النظامين السوري والإيراني. وتشاهد إدارة أوباما ماذا حل في ليبيا حيث انتشر السلاح بين أيدي الميليشيات والقبائل وفاض إلى خارج الحدود، وبات يشكل أكبر تحدٍّ أمام قيام نظام جديد ويهدد وحدة البلاد. ولا يمكنها في حالة سورية ألا تراعي مخاوف إسرائيل من مثل هذا السيناريو.
إضافة إلى ذلك ترى تقارير العسكريين الأميركيين أن المعارضة السورية مشتتة ولا تملك منطقة تنطلق منها على غرار ما شكلته بنغازي ثم مصراتة في المواجهة مع نظام معمر القذافي. كما أن «الجيش الحر» لا يشكل نداً حقيقياً للمؤسسة العسكرية التي لا تزال متماسكة خلف النظام. أما تسليح هذا الجيش فلن يخل سريعاً بميزان القوى الراجح لكفة النظام، ويحتاج إلى هيكلة وتنظيم يستغرقان وقتاً.
أفاد نظام الأسد حتى الآن من كل هذه المعطيات. ولكن يجب ألا يغيب من حساباته أن للعبة الوقت حدوداً، خصوصاً أن الملف السوري بات على طاولة الكبار. ولهؤلاء حسابات أخرى مختلفة وملفات ومصالح متشابكة. وعندما تشعر الولايات المتحدة وأوروبا بأن الوقت حان للتدخل ووجوب رفع التحدي في وجه روسيا لن تتأخرا. وتجربة يوغوسلافيا وكوسوفو لا تزال حية في الذاكرة، على رغم كل ما كانت تعنيه يوغوسلافيا لروسيا. تدخل الغرب متجاوزاً اعتراضات موسكو ومعاندتها.
من المبكر القول إن روسيا تعيد إحياء الحرب الباردة لتجازف بكل مصالحها مع أميركا وأوروبا التي لا مجال للمقارنة بينها وبين سورية. فضلاً عن أنها تعي جيداً حدود قدرتها على موازنة القوة الأميركية على رغم كل ما تعانيه هذه القوة. ما قد يصح قوله إن سورية قد تتجه إلى ما يشبه الصومال، أي إلى الفوضى الكاملة التي لا مكان فيها لا لوحدة ولا لتقسيم… إذا تشبثت روسيا بمواقفها، وإذا لم يجد «أصدقاء سورية» بديلاً من تسليح المعارضة. قد تتحول البلاد أرضاً خصبة لكل أنواع المسلحين والميليشيات و «المجاهدين».
بعد مؤتمـــر تونس ليس أمام اللاعبين سوى تغيير مقارباتهم وقــــواعد انخراطهـــم في الأزمة السورية. وإذا كان المعـــارضـــون السوريـــون شعروا بخيبة أمل من «أصدقائهم» في تونس، فإن المسؤولية الأولى تقع عليهم لتصحيح المقاربة الدولية لأزمتهـــم قبل المؤتمر الثاني المقرر في تركيا. عليهم اللقاء والتوافق على الحد الأدنى وتقديم وثيقة أو بيان جامع يرسم صورة المرحلة المقبلة وملامح النظام البديل، فلا يظل تشتتهم شماعة تسهل على المجتمع الدولي التنصل من مسؤوليته عن المجازر التي ترتكب كل يوم. ولعل مثل هذا التوافق يشجع الذين لا يزالون يحيطون بالنظام ويتمسكون به على تململ ومضض. فهؤلاء بالتأكيد ليسوا انتحاريين ليجازفوا بالمستقبل المظلم من أجل رموز النظام.
أما روسيا التي رحبت في البداية بحل للأزمة مشابه للحل الذي اعتمد في اليمن، والتي تتعامى عن العبء الأخلاقي حيال أعمال القتل، لا يمكنها إن تتجاهل أخطار سقوط سورية في تجربة صومالية تطيح كل مصالحها ومواقعها ليس في هذا البلد فحسب بل في المنطقة كلها. فهل تنتظر روسيا عبور امتحان إعادة انتخاب بوتين بسلام لتعيد النظر في مقاربتها؟ ترفض موسكو تسليح المعارضة أو من تسميهم «العصابات المسلحة»، وتعارض أي تدخل عسكري، وتخشى وصول إسلاميين متشددين إلى الحكم. ألا تلتقي إلى حد ما مع ما توافق عليه «مؤتمر أصدقاء سورية» من تمسك بالحل السياسي؟ الحل تلزمه شجاعة استثنائية، تسوية ما يتقدم فيها اللاعبون للقاء في منتصف الطريق. أن تلتقي المعارضة سريعاً على وثيقة تطمئن روسيا مثلما تطمئن «الأصدقاء»، وتطمئن أهل الداخل بكل مكوناته، طوائف ومذاهب وعسكريين، لتشجعهم على الخروج من النظام.
الحياة