الحوار مع الأسد/ برهان غليون
ما كان من الضروري انتظار اختتام جلسات اجتماع موسكو التشاوري، لمعرفة نتائج ما سمي الحوار السوري ـ السوري، حتى لو كانت موسكو هي التي قررت مَن يملك الحق في الحوار. كان يكفي قراءة مقابلة الأسد في مجلة الـ”فورين بوليسي” الأميركية (26 يناير/ كانون الثاني 2015)، وفيها يجد السوري المذبوح كل ما يريده من إجابات على الأسئلة التي تطرحها المعارضة، ويطرحها العالم، بخصوص الخروج ممّا يسميه الأزمة السورية.
بعد أربع سنوات من الحرب التي طحنت سورية والسوريين، لم يغيّر الأسد قيد أنملة من رؤيته، أو بالأحرى روايته، ما حدث. فهو لا يزال يصرّ على أنه لا توجد أي مشكلة سياسية وطنية، وأن المشكلة تتمثل بـ(وجود إرهابيين سوريين، يدعمون إرهابين أجانب، ويساعدونهم على المجيء والتخفي بين المدنيين)، هكذا يعلمنا الأسد سبب إلقاء البراميل المتفجرة على المدنيين (وهم يشنون هجمات على طريقة حرب العصابات. هذه هي صورة هذه الحرب).
ومن المنطقي، بعد ذلك، أن ينكر الأسد وجود المعارضة، وأن يعتبر مَن يدّعيها مجرد دمى اختلقتها وتحركها الدول المعادية لسورية. ومن المنطقي أيضاً أن لا تستحق مثل هذه الدمى أي حوار فعلي. الحوار الوحيد الممكن هو مع المتمردين الذين يملكون نفوذاً على الأرض. وبما أن قسماً كبيراً منهم، بل معظمهم التحق بالقاعدة، والقسم الآخر فضّل العودة إلى صفوف الجيش النظامي، لم يبق إلا مجموعات صغيرة لا أهمية لها، يجري التفاهم معها من خلال سياسة الهدن والمصالحات: (يسلموننا سلاحهم، ونحن نعفو عنهم، ويعيشون بشكل عادي).
ما الفائدة، في هذه الحالة، من مؤتمرات الحوار والمفاوضات؟ البرهنة للرأي العام الدولي أنه لا توجد معارضة حقيقية، وأن ما تشهده سورية، منذ أربع سنوات من كوارث، انتقلت آثارها إلى المحيط، ووصل بعضها إلى أوروبا، ليس سوى نتائج الحرب التي تخوضها ضد الإرهاب، والتي تجعلها رائدة للعالم في هذا المجال. ما يمكن أن يكون موضوعاً للحوار مع الدمى من المعارضين هو الملف الإنساني. وفي هذا المجال، يريد الأسد من المعارضة أن تؤكد صحة استراتيجيته القائمة على التجويع والتركيع، والعمل على تعميمها، وذلك بالقبول بإعادة الشرعية له، لقاء السماح بتمرير جرعات غذائية للمدن والمناطق المحاصرة والمجوّعة. وهو يأمل أن يشجع هذا الدول والحكومات على حذو حذوها، وإنهاء مقاطعتها الأسد ونظامه. باختصار، وكما أظهرت مناقشات موسكو والقاهرة، ليس الهدف من هذه الحوارات مناقشة الأزمة الوطنية السورية، وإيجاد حل لها، وإنما غسل النظام وإعادة تأهيله بالاستفادة من أجندة التعبئة الدولية ضد الإرهاب.
لا يظهر الأسد، في هذه المقابلة، أدنى شعور بأنه أخطأ خلال السنوات الماضية، أو أن أي شكل من المسؤولية يقع على كاهله عمّا حصل في البلاد، وعمّا عاناه الشعب، ولا يزال، وسيعاني منه عقوداً طويلة قادمة. على محرر “فورين بوليسي” الذي يسأله عن أخطاء محتملة، يجيب، من دون تردد: ليس في الأمور الأساسية. لقد اتخذت في الأزمة ثلاثة قرارات وجميعها كانت صائبة: فتح الحوار على الجميع، تعديل الدستور، وشن الحرب على الإرهاب. الآخرون هم المخطئون، المعارضة التي رفضت الحوار المفتوح والدول التي لم تقبل الاعتراف بالإصلاحات وتعديل الدستور. وعندما يسأله الصحافي أن يحدثه عن أي خطأ صغير يعتقد أنه ارتكبه، يجيب، من دون تردد، إنه لا يتذكر منها شيئاً.
والحقيقة، لا يرى الأسد في حرب السنوات الأربع الدامية ما يراه أكثر السوريين. بالتأكيد، كانت قاسية ومدمرة، ككل الحروب، لكن حصيلتها كانت أكثر من إيجابية. يقول للصحافي: “إذا سألتني في ما إذا كانت الامور تجري بشكل حسن، سأقول إن كل الحروب سيئة، لأنك تخسر، هناك دائماً دمار في الحرب. السؤال الأساسي هو ما الذي ربحناه في هذه الحرب. ما ربحناه في هذه الحرب أن السوريين لفظوا الإرهابيين، والآن الشعب السوري يدعم حكومته أكثر، والشعب السوري يدعم جيشه أكثر. وقبل الحديث عن خسارتنا الأرض، ينبغي الحديث عن القلوب والعقول التي ربحناها، والدعم من الشعب السوري. هذا ما ربحناه. ما تبقّى أمور لوجستية تقنية.
لا يمكن مقارنة ما حصل من موت ودمار وتشريد وخراب، وهو من الأمور العادية التي تحصل في كل الحروب، بما تحقق من نتائج وأهداف إيجابية، وهو القضاء على التمرد والإرهاب. ولا مجال للتراجع، أو الاعتراف بالخطأ، ولا لذرف أي دمعة واحدة على مئات ألوف الشهداء وملايين الجرحى والمعطوبين والمشردين واللاجئين الذين قضوا بسبب أخطاء الآخرين، الإرهابيين والدول التي دعمتهم. ولولا هذا الدعم لحسمت الحرب نهائياً لصالحه منذ زمن طويل”.
يعتقد الأسد بأنه كسب الحرب، ليس لأنه حقق انتصاراً عسكرياً على المعارضة، وإنما لأنه نجح في حرمان خصومه، أي الشعب، من الانتصار، وفرض عليهم الدخول في حرب ما كانوا مستعدين لها، ونجح في وضع التنظيمات المتطرفة في مواجهة الجيش الحر، فلم يعد للدول الكبرى خيار سوى التعاون معه لدرء خطر الإرهاب. وهو يعتقد أنه لا يزال الطرف القوي في المعادلة، لأنه، في محيط الخراب القائم، يبقى القوة الوحيدة المنظمة التي تخضع لمنظومة ما يشبه الدولة، أو التي تنظم العصائب فيها نفسها على شكل دولة. وهو ينتظر، بفارغ الصبر، جائزة انتصاره من الغرب الذي يتذرع بإرضاء المعارضة، ويصر على أن يكون الدولة التي تحمي قيم المدنية والحضارة، في مواجهة الإرهاب والهمجية والتخلّف والدين والطائفية والمذهبية، لا طرفاً في صراع أو حوار.
يفسر هذا المنطق، وحده، لماذا فشلت، وسوف تفشل، حوارات السوريين جميعاً منذ أربع سنوات، كما يفسر كيف أصبح الحوار الفعلي الوحيد على سورية هو الذي يجري بين الأميركيين والإيرانيين.
لو كان عند الأسد ما يقدمه لسورية والسوريين، الآن أو في المستقبل، لما حوّل بلده إلى حطام وشعبه إلى لاجئين، ولو كان لدى المعارضة ما تنقذ به سورية، لما كنّا نتسوّل، اليوم، كلمة دعم من الآخرين. لذلك، يستطيع الأسد أن يرفض الحوار ويعلي سقفه، كما يشاء، فهو خارج التغطية، كما تقول اللغة العامية، وتستطيع المعارضة أن تضرب بسيفها الخشبي كما تريد، فهي بعيدة جداً عن صنع الأحداث.
حقيقة الأمر أن الحرب التي فجّرها الأسد لتقسيم الشعب، وسد باب التغيير، أطاحت حكمه ونظامه منذ زمن بعيد، وأن ما هو قائم في سورية، اليوم، هو نظام (البسدران)، أو الحرس الثوري الإيراني، الذي أعلن قادته، منذ أيام، عن تشكيل حزب الله السوري وقواعد للباسيج في كل المحافظات الـ14، من دون أن يتجرأ مسؤول سوري واحد على النطق بكلمة.
سورية بلد محتل، لا يملك فيها أحد شيئاً سوى قوى الاحتلال. وبمثل هذه الحوارات التي تزيد السوريين انقساماً، لا يمكن أن نتقدم ولو خطوة واحدة، وسنتحول جميعاً إلى أزلام وأتباع.
لن يخلّص سورية إلا يقظة شعبها، يقظة تحول دونها، حتى الآن، المخاوف والأحقاد ومشاعر الانتقام الطائفية والإثنية والمناطقية التي أشعلها نظام امتهن صناعة العبودية والموت. وعلى الوطنيين المخلصين، داخل النظام وخارجه، تقع مسؤولية توحيد الشعب، من أجل دحر الاحتلال واستعادة وحدة سورية واستقلالها وحريات أبنائها. وليس للحوارات، في الوقت الضائع، سوى وظيفة واحدة، هي إدامة الوهم بأنه لا يزال هناك في سورية سلطة وحكم ونظام.
العربي الجديد