الحوار والأيديولوجيا
حسام الدين درويش
كتبت في مقالة سابقة، بما معناه، أنَّه يصعب، وربما يستحيل، إقامة حوار بين مؤيدي الثورات العربية الحالية ومعارضيها. كما أنَّ النقاشات التي تأخذ شكل المناظرة تتحول غالباً إلى ما يشبه المماحكات أو المجادلات العقيمة والمسيئة غالباً لمن يشارك فيها، من جهة، ولما يدافع عنه أو يؤيده من جهة أخرى. وأسعى من خلال هذه المقالة إلى أن أوضِّح، لنفسي ولمن يهمه الأمر، سبب أو أسباب هذه الصعوبة أو الاستحالة في إقامة حوار، والدخول في نقاش ودي ومفيد بين مؤيدي ومعارضي الثورات العربية.
من الضروري الإشارة في البداية إلى أنني من مؤيدي الثورات العربية، بدون أي تحفظ؛ وأرى أنَّ السلبيات التي تحصل في هذه الثورات أو نتيجة لها هي من صنع النظام الاستبدادي الذي يثور عليه الشعب، وهذا النظام هو الذي يتحمل مسؤولية هذه السلبيات بالدرجة الأولى بل وبالدرجة الثانية أيضاً؛ في حين أنَّ إيجابيات هذه الثورات تنم عن روعة هذا الشعب، وتتم بالرغم من إرادة الأنظمة الغاشمة. أنا أشير لذلك ليس لأسجل موقفاً – فلا أرى أنَّ الإعلان النظري لموقف شخص مثلي من الثورات هو أمر مهم أو مفيد – وإنما لأنبِّه إلى أنَّ معظم مضامين هذه المقالة ستكون متأثرة برأيي المسبق من الثورات العربية، بطريقة أو بأخرى، وبدرجة أو بأخرى.
السبب الرئيس لعدم إمكانية إقامة حوار أو نقاش بين مؤيدي الثورات العربية ومعارضيها يمكن، من وجهة نظري، إيجازه بالقول إنَّه حيث توجد إيديولوجيا تنتفي تقريباً أي إمكانية للحوار، لتحل محله أشكال مختلفة من الصراع، التي قد تأخذ شكل الحرب في أسوأ الحالات، أو التفاوض والهدنة في أحسنها. لا يمكن إقامة حوار بين المؤمنين أو المعتقدين بإيديولوجيات مختلفة سواء أكانت هذه الإيديولوجيات سياسية أو دينية أو اقتصادية أو غير ذلك. وقبل أنْ أستفيض قليلاً في شرح هذا الرأي وإظهار معقوليته النسبية، أفترض أنَّه يجب أن أحدد معنى مفهومي الحوار والأيديولوجيا من وجهة نظري.
تعريفي المؤقت للحوار أو التحاور(1) هو: تبادل للحديث والاستماع بين شخصين أو أكثر، حول مسألة يعتبرها المتحاورون مهمة وجدية، بهدف أن يفهم كل محاور أو متحاور الآخر ورأيه عن المسألة المطروحة، بما يعزز فهم كلٍّ منهم للمسألة المطروحة ولنفسه في نفس الوقت. وأقصد بالأيديولوجيا الفكر المنسق بدرجة ما، والمرتبط، بشكل مباشر وعيني، بمصالح البشر وقيمهم ومصيرهم عموماً. وعمومية تعريف الأيديولوجيا تبيِّن سبب تنوع ميادين هذه الأيديولوجيات (سياسية اقتصادية دينية إلخ.) وترابط هذه الميادين في الوقت نفسه.
الغاية المفترضة من الحوار هي الفهم (فهم الآخر، فهم الفكرة، فهم الذات)، وفهم الآخر يقتضي بالضرورة اكتشاف درجة ما من المعقولية تبرر، نسبياً وجزئياً، ما يقوله ويعتقد به. فهل يمكننا أن نسعى إلى إبراز معقولية أيديولوجيا تعارض الأيديولوجيا التي نتبناها؟ من الواضح مسبقاً أنَّ جوابي على هذا السؤال هو النفي. لماذا؟ لأنَّ الأيديولوجيا تتضمن دائماً أفكاراً تمس مصالح البشر وقيمهم، بل وحيواتهم. فالأيديولوجيا المبررِّة بشكل ما لممارسات الأنظمة الاستبدادية، لا يمكن لمعارضي هكذا أنظمة تقبلها أو محاولة اكتشاف معقوليتها الجزئية والنسبية. فهذه الأنظمة – من وجهة نظر من يعارضها – أزهقت أرواح الكثيرين، واعتقلت وعذبت الكثيرين، وأفقرت وأذلت غالبية الشعب … إلخ. محاولة فهم هذه الأيديولوجية، بمعنى البحث عما يبررها ويظهر معقوليتها نسبياً وجزئياً، ستكون في الوقت نفسه تبريراً أو عدم اكتراث للقتل والاعتقال والتعذيب والإفقار الذي مارسته وتمارسه هذه الأنظمة. وبالنسبة لمعظم وربما كل من تمسهم هذه الأمور، لا يمكن مناقشة الأمر على أنَّه مجرد اختلاف معرفي في الرأي يجب احترامه وتقبُّله، لذا يفضي الأمر غالباً إلى نفور نفسي وتنديد أخلاقي متبادل. وبدون افتراض أخلاقية الآخر لا يمكن أن تقوم للحوار قائمة.
يعتبر معارضو الأنظمة الاستبدادية أنَّ الدفاع عنها هو أمر لا أخلاقي، وهذه اللاأخلاقية قد تكون مقصودة من قبل الشخص، وقد تكون غير مقصودة. فإذا قال شخص ما (وهذا القول حصل بالفعل) بأنِّه عاش في أوربا لمدة تقارب الخمسين عاماً، وأنَّه وجد أن مستوى الديمقراطية والحرية في سورية هو أكبر وأرقى من مثيله في كل الدول الأوربية؛ فإنَّه يصعب كثيراً على الكثيرين – وأنا منهم – الاعتقاد بأنَّ هذا الشخص مقتنع فعلاً بما يقوله. ولا يمكن محاورة رأي شخص نعتقد أنه كاذب فيما يقول. فالحوار يفترض صدق الآخر – أي اعتقاده بحقيقة ما يقول – بالضرورة. وحتى إذا كنا نعرف أو نفترض حسن نية هذا الشخص، فمن الصعب جداً – بالنسبة لمعارضي استبداد النظام في سورية – محاولة إقامة حوار مع هذا الشخص، بمعنى محاولة فهمه، وفهم ما يقوله، وتبريره، وإبراز معقوليته، بدرجة أو بأخرى. فمثل هذا القول يخالف ما يعتبره الكثيرون واقعة بديهية. والبديهيات هي غالباً منطلقاً للفكر، أكثر منها موضوع تأمل وتفكر. ومن الصعب ومن غير الشائع وضع البديهيات موضع تفكير ونقد. لكن إذا كان الشخص مقتنعاً فعلاً بما يقول، فهذا يعني أنَّ ما يعتبره الكثيرون بديهية ليس كذلك بالنسبة له، والعكس بالعكس. وفي مثل هذه الحالة، من الصعب جداً التحاور، لأننا تعودنا على البرهنة انطلاقاً من البديهيات وغيرها، وليس البرهنة على البديهيات. ويمكن لأطراف الحوار أن تختلف في الكثير من الأفكار، لكن عندما يمس الاختلاف ما يعتبره طرف ما في الحوار أنَّه بديهية مؤسِّسة لوجهة نظره، فسيتعذر حينها الحوار، لتحل محله أشكال أخرى من الحديث المزعج أو الصمت المريب.
في تبادل الحديث الأيديولوجي بين شخصين، ينظر كل منهما إلى الآخر على أنَّه إما كاذب أو متوهِّم بالمعنى الفرويدي. والوهم – تبعاً لفرويد – هو كل اعتقاد مشتق من الرغبة دون أن يكون مطابقاً للواقع. وإذا كان متعذراً التحاور مع الكاذب، فمن المتعذر أيضاً التحاور مع الواهم. وبدلاً من محاولة فهم وجهة نظر مثل هذا الشخص وفهمه هو، سنسعى إلى تفسيره وتفسير رأيه بأن نقول بأنَّ ما يعتقده ناتج عن رغباته، أو مصالحه، أو مخاوفه، أو انتماءاته، وما شابه. وسبق لي أن قلت بأنَّ أفكار أفراد الشعب المهتمين والمنهمين والمعنيين بشكل مباشر بالثورات العربية، مرتبطة بالغضب، في حالة مؤيدي الثورات، وبالخوف في حالة معارضي الثورات. صحيح أنَّ ارتباط الأفكار بمشاعر الغضب أو الخوف لا يعني بالضرورة عدم صدقية هذه الأفكار أو صحتها، لكن تأسُّس أفكارنا على هذه المشاعر أو ما يشابهها سيجعلنا غالباً أكثر ميلاً إلى تقبل ما يتناسب من الأفكار أو الأخبار مع هذه المشاعر بغض النظر، جزئياً ونسبياً على الأقل، عن مدى مطابقة هذه الأفكار أو الأخبار للواقع الذي تتحدث عنه. ويتعزز هذا الأمر حين تكون إمكانية التثبت من الأفكار والأخبار ضعيفة، وهذا هو الحال في سورية مثلاً في الكثير من الأحيان. وفي مثل هذه الحالات تخضع الحقيقة للخير غالباً، بحيث يكون كل ما هو خير حقيقي، وليس العكس. فمن وجهة نظر الثوار ومؤيديهم، ما يسعى إلى تحقيقه الثوار هو خير، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى ما يفعلونه على أنَّه أفضل ما يمكن فعله أو أقله سوءاً أو شراً. والمؤيدون للأنظمة الاستبدادية (بنفي هذا الاستبداد أو بتبريره بطريقة ما) يرون العكس، أو يقولون أنَّهم يرون ذلك. فيقولون إنَّ سقوط النظام القائم هو شر يجب تجنبه، وإنَّ بقاء هذا النظام هو خير، أو أهون الشرين. وقد يقول المعارضون للثورات ومؤيدوها الأفكار أو المنطلقات نفسها، بمعنى ما، لكن الاختلاف يكون في الأهمية المعطاة لهذه الفكرة أو تلك، ولنتائج هذه الأفكار أو المنطلقات. فقد يعترف الثائر الغاضب من النظام باحتمال أن تفضي الثورة، التي يشارك فيها، ببلده إلى المجهول؛ لكنَّه يرى أنَّ سوء النظام الحالي
قد بلغ درجةً تستدعي العمل على التخلص منه “بأي ثمن”. في المقابل، قد يعترف معارضو الثورة أو مؤيدو النظام القائم بسوئه الشديد، لكنهم يرون أنَّ البديل سيكون أسوأ على الأرجح. وعلى الخوف من هذا البديل إنما يؤسِّس هؤلاء أفكارهم وأفعالهم الرافضة أو المنتقدة للثورة والثائرين.
لكن إذا كان الحوار بين مؤيدي السلطة ومعارضيها متعذراً، فهل يمكن إقامة حوار بين السلطة الاستبدادية والمعارضة ممثلة بممثلي الأحزاب الموجودة خارج السلطة والمثقفين المعارضين. أطرح هذا السؤال، ليس لأنَّه ذو صلة بفكرة المقالة فقط، وإنما لأنَّ السلطات، في البلدان العربية التي تشهد ثورات أو احتجاجات جماهيرية واسعة (سورية واليمن وليبيا والبحرين)، دعت أو تدعو المعارضة إلى الحوار كحل للخروج من الأزمة التي تمر بها تلك البلاد. وفي مفارقة مفهومة من ناحية، ومدهشة من ناحية أخرى، كان جواب المعارضة غالباً وربما دائماً هو رفض المشاركة في هذا الحوار. هي مفارقة مدهشة لأنَّ المعارضة كانت سابقاً تستجدي غالباً من السلطة هذا الحوار الذي ترفضه الآن. لكن الدهشة قد تزول إذا أخذنا بعين الاعتبار اختلاف المعطيات على الأرض عما كانت عليه سابقاً من ناحية، وعدم ثقة المعارضة بصدق نوايا النظام أو السلطة الداعية إلى الحوار بل وثقتها بسوء نيته من ناحية أخرى. فالمعارضة في هذه البلدان تسعى إلى إسقاط النظام (مع استثناء نسبي لحالة البحرين الخاصة)، فهل يمكن إقامة حوار بين نظام يسعى للبقاء ومعارضة تسعى لإسقاطه؟ ربما كان اسم المفاوضات، وليس الحوار، هو الأنسب لمثل هكذا لقاء بين المعارضة والسلطة. وهذه المفاوضات يجب أن يكون لديها هدف وحيد الانتقال بالبلد من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي. وتغيير النظام وإسقاطه لهما المعنى نفسه هنا. لكن المفاوضات، في حال توفرت الظروف الملائمة لانعقادها، قد تجعل هذا التغيير يسير بطريقة أبطأ وأكثر سلمية في الوقت نفسه.
وتوخياً للدقة ولأسباب أخرى سأتحدث عن الحوار الذي دعت إليه السلطة الحاكمة في سورية. لقد رفض معظم المعارضين، على الأقل، المشاركة في هذا الحوار المزعوم. هو مزعوم، لأنَّه لا يمكن الوثوق بصدق نوايا السلطة انطلاقاً، على الأقل، من خطاب ممثليها وإعلامها الرسمي وشبه الرسمي، ومن ممارساتها على الأرض خصوصاً. فالقمع الشديد كان ومازال مصير معظم المظاهرات حتى أقلها عدداً وأكثرها سلمية. فقُبيل وأثناء وبعد إطلاق الدعوة للحوار تم قتل واعتقال الكثيرين، فأي حوارٍ أو مفاوضات يمكن إقامتها بين من يقتل ومن يُقتل، بين من يقمع وبين من يُقمع؟
لكن إذا كنت أتفهم وأؤيد رفض مثل هذه الدعوة للحوار أو التفاوض، فأنا أتمنى أن تتوفر بالفعل الشروط الضرورية لإقامته. أهم هذه الشروط هو التدليل على حسن نية السلطة ورغبتها حقاً بقيادة انتقال البلاد نحو الديمقراطية. وهذا يستوجب الوقف الفوري لاستخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين ووقف اعتقالهم وتعذيبهم، وإطلاق سراح المعتقلين منهم. ثم الإعلان عن القبول بانتقال النظام السياسي في البلاد من حكم الحزب الواحد القائد والرئيس الأبدي والأجهزة الأمنية إلى نظام تعددي يتم فيه التأسيس لتداول السلطة وتحديد سلطات الرئيس وقوننتها وتحديد عدد مرات ترشيحه وفصل السلطات، وما إلى ذلك. لكن من الواضح أنَّه لا يوجد مجال حالياً لتحقيق مثل هذه الشروط وغيرها. وبالتالي لا يوجد مجال لأي حوار حقيقي أو تفاوض مجدٍ. ولن يكون كل ذلك ممكناً إلا عندما تقتنع السلطة القائمة انَّه من مصلحتها الرحيل بأفضل شكل ممكن أو أقله سوءاً. فتتقاطع آنذاك مصلحة السلطة مع مصلحة المحتجين، بحيث يتم الاتفاق على تغيير هذا النظام، والبدء بصفحة الحرية والديمقراطية في سورية، وطي صفحة الماضي، بعيداً عن أي رغبة في الانتقام أو القصاص أو ما شابه. وبدون حصول ذلك، لن يكون هناك مجال لأي حوار أو نقاش سياسي، ليس بين السلطة والمعارضة فقط، بل بين أفراد الشعب أو فئاته أو أحزابه السياسية القائمة أو القادمة أيضاً.
هامش:
1- أفضِّل عموماً مصلح التحاور لأنِّه على وزن تفاعل ويتضمن إشارة صريحة إلى مشاركة فاعلة من طرفين على الأقل، بعكس الحوار، فالفعل حاور يحيل صراحةً إلى طرف فاعل وحيد، ويحيل إلى طرف أو أطراف أخرى ضمناً فقط. كما أن فعل حاور قد يتضمن معان سلبية كراوغ مثلاً. والأمر بحاجة لبحث معمق.
موقع الآوان