الخابور على سريره
هناك في الشمال السوري القصيّ، المقيم أبدًا في طبيعة خضراء لم تصبها يد البشر بسوء، وتحديداً عند الزاوية اليمنى من الشمال، أي صوب الشرق العراقي، ثمة “الحسكة” محافظة ومدينةً، وهذا الاسم الحديث نسبيًا يذكّر بالسمك، السمك والحسك إذ يجتمعان في قول شامي لوصف المرأة الدقيقة العظم والممتلئة قليلًا : إنها كالسمك بلا حسك. بيد أن لفظ “الحسكة” يخفي في طياته اسمًا آراميًا : نهرين. ويُقال إنها سميت كذلك لالتقاء نهر الخابور بنهر الجقجق، أو الهرماس كما سمّته العرب قديمًا.
وبقطع النظر عن المعنى المتوالد من ماضٍ لغوي حضاري مسيحي سحيق، فإن القصة ها هنا تلف وتدور وتتعرج لتصل إليه، إلى النهر؛ الخابور. فهو رفقة أخيه الهرماس يلتقيان ثم يصبان معًا في نهر الفرات العذب.
للأنهار عامة تاريخ موحد: ولادة ومصب. ويبدو أن الأنهار التي تولد من نبع، تتشعب وتتفرع وتفترش الأرض بشبكة من المياه؛ أقنية وقنالات. وتلك المياه الشبكية تسمّى أيضًا سرير النهر. والأماكن التي تكون فوق السرير، تتميز بخصوبة قوية لكن خجول.
نهر الخابور المتفرع سريرًا مائيًا في الحسكة، شكّل واديًا خصبًا كبيرًا، هو وادي الخابور الذي لفرط الخير فيه، سمّي حنطة سورية. وإن قلتَ وادياً، فمقابله تلٌ. وكذا كان؛ تنتشر التلال هناك في الشمال القصي : سبعة وعشرون تلًا، من أشهرها تل حلف وتل براك.
الناس هناك تشبه تلك الطبيعة البكر، فالتلال الممتلئة بآثار الحضارات السحيقة والفروع المائية المولّدة لضفاف وأشجار أشهرها الصفصاف، تقول كلها بالتنوع السائر نحو الصهر في بوتقة الوادي. وكذا الناس؛ بدو وآشوريون، عربٌ وسريان، كردٌ وآشوريون وكلدان، وأرمن أيضًا. كانوا جميعًا في زمنٍ مضى منصهرين بتنوع لا يفسد للخصوصية قضية. وكانت لعبة كرة القدم، ومشوار السينما أدنى إلى قوّة النهرين : الخابور والجقجق، في تأليف ذاكرة الناس هناك.
ولأمرٍ ما، راحت لغة الضاد تنبثق وتعلو، لكأنها أخت سرير النهر الخابوري. راحت اللغة العربية تطفو مع النهر، وتتفرع معه في روايات وقصائد ويوميات، شكّلت بدورها: حنطة سورية، لكن هذه المرة حنطة لغوية. حيث لا يشذّ كتّاب تلك المنطقة عن قاعدة إعلاء ما هو أولي وبِكر، وصيد المسافات المخاتلة بين البادية والخصب، ومؤاخاة الطبيعة حد الذوبان. لذا كانت تلك الكتابات على الدوام، حاملة لأسماء النبات والشجر، لكأنّها سلة “فلورا” سورية.
العربي الجديد