صفحات الثقافة

الخارجون في الليل الطويل


عقل العويط

هذا ليس مديحاً للمثقّف السوري. للشاعر. للكاتب. للفنّان. للأستاذ. للصحافي. للريفي. للمديني. للإنسان المعلوم أو الغفل هناك. هذا ليس شعراً في هؤلاء. هذا ليس نثراً. هو محض انبثاق فحسب من جيرة العقل والقلب.

الخارجون في الليل السوري الطويل، هم شعراء ذواتهم وبلادهم، وكتّابها وفنّانوها ومثقّفوها، وهم شعبها في هذا الليل الطويل.

أوجاعُهم شموسُهم ويهتدون الى الفجر بمرايا الحلم، بموشوراتها، وهي أجسادهم وقد صارت جمراً للمنارة.

تقودهم بوصلتهم الى وطنهم. فهو برّهم وبيتهم العميق العميق. وهو بحرهم ومرفأهم. وهو جرحهم واندمال جرحهم. وهو قصائد ماضيهم وحاضرهم والمستقبل. وهو محرابهم ودستورهم وسقفهم. وهو حقّهم. وهو عيشهم الحرّ الكريم. وهو الغابة والسهل والوادي والجبل والبيداء والصحراء وشبق القرى ورغبات المدن المهجوسة بآفاقها.

هؤلاء النبلاء لا يستعيرون نجوماً من السماء ليشعلوا عيونهم. هم لا تضيّعهم عيونهم. ولا تضيع منهم العيون. لأنها مشتعلة بذاتها. وهم لا يبحثون عن سماء غريبة. لأن سماءهم بلادهم. وهي ستعطيهم ما يجب أن تعطيه البلاد والسماء لأهلها. هم لا ينادون قمحاً من براري القمح ليُطعموا العصافير. فعصافيرهم مشبعة بطعام الرحب من فضائها. وهم لا يقطفون ثماراً عن الشجر ليُهدّئوا من روع الثمار على الشجر. حتى لينادى بهم أباة وليسوا جائعين الى ثمر أو طعام. وإذا كان من جوع فهم جائعون حقاً، لكن الى خبزٍ مجبولٍ بالفجر المجمّر.

هم لا يهلعون. لا يرتدّون الى وراء. لا يمالئون. لا يبيعون. لا يشترون. لا يقفزون من شرفات قلوبهم لجوءاً الى شواطئ الأمان. لا تغشّهم هاوية. لا يحول بينهم جدار. هم يشقّون الطرق فحسب، وسيصلون الى حيث هم ذاهبون. هم ذاهبون. نعم. ذاهبون وواصلون، ولا بدّ، الى عرزال ذاتهم. وهو بيتهم ووطنهم. وسقف السماء.

هؤلاء خطواتُهم أحلامُهم. لا يخطئون المسير إليها. لا يتعثّرون أمامها. لا يُسكتونها. لا يغلقون أثيرها. لا يعدونها بترف التقاعد. لا يُطعمونها. لا يروون غليلها. وإن أجاويد كرماء. لا يطردونها. لا يفسدون أريجها. لا يغوونها بيقظة أو بنوم. لئلا ترتخي أقواس نشّابها لئلا تشبع أو ترتوي أو تستيقظ أو تنام في العراء.

هؤلاء لا يجرحون ظلاًّ لئلا يشتدّ الهجير. لا يسلخون لحاء الشجر لئلا ينأى الشجر عن لحمه. من تلقائهم يرَون أمامهم. كما يرى الهجس طريقه الى قصيدة. والنبع طريقه الى نهر. والنهر الى البحر. يرَون من توق النظرات الحسيرة الى إماطة اللثام عن بؤبوئها وإنسان عينها. ويرَون من نداء الأيدي الى الأيدي. ومن أنين الضوء المكبوت الى ضوئه. ومن جموحه الى احتمالاته. وهم يرَون أمامهم فحسب. من شغف هذا الضوء غير المنظور يرَون. ولا بدّ واصلون الى فجرهم. وهناك، هناك فقط، يصير ضؤوهم لعيونهم مرايا. وللناظرين.

هؤلاء يكونون بأنفسهم لأن أنفسهم مكتملة بذاتها. ولأنهم مكتملون في الحلم. لا يُختصَرون بنجمة مجوس ولا يُستدرَجون الى وهم. يستمدّون هواءهم من رئاتهم لأنها تقيم في الهواء الكبير. هناك، حيث لا سجن. ولا زنزانة. هناك، حيث لا سلطان إلاّ للهواء. وهو لن يكفّ عن ابتداع الهواء.

أسمّيه الهواء. الهواء الكبير. ولا بدّ. الأكيد أن له اسماً آخر، أو أكثر. الخارجون في الليل الطويل والعارفون به، الخارجون على الليل الطويل، يسمّونه: حرية.

من أين لي أن أرشد هؤلاء الى شيء. هم يسترشدون بأرواحهم. وهي تكفي لإرشاد البوصلة الى أصحابها. والعصافير الى أعشاشها. والظلال الى أشجارها. والسماء الى قمرها. والينابيع الى أنهارها. والليل الطويل الى أحلامه. والشعب الى بلده الجميل. وهي تكفي لإطعام الجوعى. والشهداء. والأطفال. والمنتفضين. والتائقين. مثلما تكفي لتبديد الكوابيس. وانتظار الفجر القوي.

هؤلاء لا يحتاجون الى أسماء. لا أعتقد أنهم يحتاجون الى أسماء. يكفيهم أنهم ينتمون الى أسماء أجسادهم. يكفيهم أن أجسادهم هي أرواحهم. وهذه تنوب عن كل تسمية.

ليلهم طويل. خروجهم طويل. وهذا لا بدّ منه. وإذا كان يصعب أن يكون الليل طويلاً، والخروج طويلاً، فيكفيهم والحال هذه، أن ضوءهم لا ينضب. ولا يهزل. ولا ييأس. يكفيهم أن ضوءهم هذا يصدر من تلقائه. ومن تلقائهم. تماماً كنبعٍ أقام طويلاً في العتمة ثم راح يبدّد عتمته بذاته. ويكفيهم أن أحلامهم هي التي تسعفهم وتنقلهم الى الإقامة في هذا الضوء. وهي لا تكتفي. وإنْ كافية.

مثل هؤلاء لا يحتاجون الى أحد. ولا يحتاجون الى مديح. ولا الى شعر. ولا الى نثر.

وإذا كان لي أن أبوح بشيء. إذا كان لي أن أعترف حبّاً وامتناناً وعرفاناً، فأنا فقط أحتاج الى أن أنحني لهم. خصوصاً منهم لأصدقائي الشعراء والكتّاب والفنّانين والمثقّفين والصحافيين.

أحتاج الى أن أنحني لخروجهم الطويل من هذا الليل السوري الطويل.

والفجر، وإن ادلهمّ الليل، لا بدّ آتٍ. بعد قليل أو بعد كثير.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى