الخاكي.. جزءٌ من الهزيمة/ سلام الكواكبي
حملت المقتلة السورية أحداثا سوريالية كثيرة، يكاد أغلبها يقف بعيداً عن إمكانات العقل البشري للتصديق. فمن حرق الأحياء، إلى براميل الحقد والموت، إلى إبادة مئاتٍ بالأسلحة الكيميائية، إلى قصف المستشفيات والمخابز والنقاط التعليمية، إلى التعذيب المتلفز، إلى التوجيه للاقتتال المذهبي والطائفي، إلى ترقيم جثث القتلى تحت التعذيب وتصويرهم لإشفاء غليل “النيرونات” المتعطشين للدماء، إلى تهجير الملايين للوصول إلى “تجانس” مجتمعي، سمعت عنه البشرية في آخر “فرصة” من الزعيم هتلر الذي لم يَدُم للأبد، إلى نفاق الأبواق المُتَمَجِّدَة المحلية والاقليمية الذي تجاوز مسرح اللامعقول، إلى حفل تدشين مجسّماتٍ للحذاء العسكري يرأسه كبار المسؤولين، إلى تتويج الرؤوس المتملقة بأحذيةٍ عسكرية، إلى تقبيل الحذاء ذاته أمام الملايين على شاشات التلفزيون، إلى رفض رئيس سابق لهيئة معارضة مقابلة الرئيس السابق أوباما في واشنطن، عندما كان كلاهما على رأس عمله، بحجة أن هذا اللقاء يجب أن يجري في مدينة محايدة (…)، إلى اعتذار رئيس هيئةٍ معارضةٍ سابق عن اللقاء مع أهم الصحف الدولية، بحجة الانشغال وتمضية وقت هذا الانشغال على “فيسبوك” (…)، وإلى آخره …
ويكاد المعني بالأمر أن يظن ـ ألماً وأملاً ـ أن هناك نهاية لهذه السلسلة، أو بصيص نور في عمق النفق، أو قاع لهذه البئر المليئة بالدم وبالدموع. وسرعان ما يكتشف أن هذه السلسلة مستمرة، ولن تجد من يقطعها في قريبٍ عاجلٍ، أو في بعيدٍ مؤجلٍ.
فمنذ فترة وجيزة، تكاثرت دعوات بعض المتعطشين للدماء وللثراء، كما العاملين على تعزيز
“من عاش في سورية يعرف ماذا تعنيه حمولة اللباس العسكري خاكي اللون منذ نعومة الأظافر” السيطرة على حيوات الناس ومستقبلهم، الى إعادة حصص “الفتوة” العسكرية إلى المدارس، وما يستتبعها ذلك من إعادة اللباس ذي اللون “الخاكي” الموحّد والممقوت، لإطفاء ما تبقى من براءة الأطفال والمراهقين. ويقول أصحاب هذه الدعوات، أو من يترجمون أوامر أصحابه، بأن “التربية” العسكرية هي الحل الأنسب لانقسام المجتمع، وهي السبيل الأنجح لتعزيز اللحمة الوطنية، وهي الطريقة الأمثل في تهذيب جيلٍ “مارقٍ” بمعاييرهم “رفيعة المستوى”. دعوةٌ تترافق مع شعور الانتصار على جزءٍ من الشعب، والتشفّي بمآسيه والتلذّذ بعذاباته.
من عاش في سورية، أو زارها، يعرف ماذا تعنيه حمولة اللباس العسكري خاكي اللون منذ نعومة الأظافر حتى المآل الأخير. فهو اللون الذي يقضي على براءة الطفل والمراهق، وهو اللون/ الرمز الذي يُعلّب الانتماء في قطعة قماش ترمز إلى التحشيد والتطويع والترويض. لم يكن هذا اللون/ اللباس/ الرمز، في يومٍ من الأيام، مثيراً للحميّة الوطنية، أو مُعزّزاً لانتماء وطني دمّرته السلطات المستبدة بشكل منهجي عقودا. ولم يكن ألبتة عاملاً مساعداً على إزالة الفوارق الطبقية، كما يحلو لأصحاب الخطاب الخشبي التأكيد عليه. كان فقط أداةً فاعلة في مسح الشخصية، وفي تعريضها للتبعية. وكم من الأطفال الذين ينتظرون لحظة الخروج من باب المدرسة لخلعه ورميه في الحقيبة. وفيما تلا من سنين، رافق تجييش الناس وعسكرة الأذهان طلاب الجامعات، فصار لهم لباسٌ عسكريٌ أسبوعيٌ، إضافة إلى لباس مدني موحّد، فرضته رؤية أيديولوجية تدّعي الاشتراكية، في حين تسعى إلى تسويق أقمشة استوردها أو قام بصنيعها أحد الفاسدين الذين يشكلون دعامات المؤسسة الحاكمة. أما اللباس العسكري الجامعي، وباختلافٍ جذريٍ في الجمهور المستهدف عن لباس الفتوة المدرسي، فقد كان مخصصاً للرجال من الطلاب فقط، مُقصياً النساء عن متعته في الشكل وفي المضمون وفي الحمولة.
كان يوم “التدريب العسكري” الجامعي فرصة لتحويل الحرم الجامعي إلى شبه ثكنةٍ عسكرية، إضافة إلى المفارز الأمنية المسلحة المنتشرة في كل جنباته. في هذا اليوم، يتدحرج الطلاب،
“يعتمد المستبد في تسيير أمور حكمه وتيسيرها على ما اعتبره عبد الرحمن الكواكبي “جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة” بلباسهم العسكري، تسكعاً على أرصفة الكليات، أو في أروقتها. وكان وجودهم قطعاناً تلبس العسكري يُطلق في عروقهم عنصراً شبه هرموني، مُحفّز لذكورتهم الوقحة، وللابتعاد عن كل قيوم الحياة المدنية الطبيعية ومعاييرها. فمن كان خجولاً ومحترماً الجنس الآخر في الحالة المدنية، على سبيل المثال، يصيرُ وقحاً ومحترشاً من الصنف الأول لمجرد “عسكرته” الشكلية. كان المدربون من المغضوب عليهم من الضباط. وكان لديهم نوعان من “الحقد”، الأول مرتبط بإقصائهم عن الوحدات العسكرية الحقيقية، والثاني ينتج عن حقدٍ لا إرادي، وكمين ضد كل من هو مدني في الجامعة، حيث يسعى في مناكبها بعيداً عن اللون الخاكي، نظرياً على الأقل.
يتحدث فيلمٌ تسجيليٌّ صنعه، أخيرا، المخرج السوري الفوز طنجور، وحصل على جائزتين عالميتين، بجمالية مؤثرة إيلاماً، عن دور اللون الخاكي، ووقعه ووزنه في مسار السوريين. فيلمٌ صُنع بحساسية رفيعة يربط هذا اللون بكل مراحل حياة السوريين وتطورها. لون مرتبط بتقلبات وانتكاسات وهزائم أجيال بكاملها في هذا البلد المكلوم.
يعتمد المستبد في تسيير أمور حكمه وتيسيرها على ما اعتبره عبد الرحمن الكواكبي “جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة”. مضيفاً: “وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمّة؛ حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال”.
أجيال كاملة خضعت وما تزال لهذا المنطق، ويأتينا اليوم من يدعو إلى تعزيز السوريالية السورية.
العربي الجديد