الخبز هو المنفى/ مها حسن
كنتُ أردد (أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي) دون أن تربطني علاقة عميقة مع الكلمات، إلى أن صار الحنين إلى الخبز من أشد أنواع النوستالجيا التي أعيشها في فرنسا منذ سنوات.
أرغفة الخبز الرقيق، لا تتواجد بسهولة في هذه المنافي. ثمة محال بيع مواد شرقية، يملكها أتراك أو لبنانيون، تتواجد في العاصمة، وبعض المدن الكبرى، ولكن هذه الأرغفة لا تشبه خبز أمي.
أما انتقالي إلى مدينة صغيرة، تتسم بهوية فرنسية خالصة، لا مكان فيها للباعة والمنتجات غير المحلية، فهو منفى جديد، لا عن بلدي فقط، وعن باريس التي كانت تنجدني ببعض أرغفة الخبز.
كلما مررت من باريس، في طريقي إلى مدينتي عائدة من المطار، توجهت فوراً صوب المخزن اللبناني وملأت حقيبتي بالخبز والمكدوس وأكياس الملوخية والشنكليش والقهوة.
أعود كأنني أحمل كنزاً، أفرش أغراضي على طاولة المطبخ، وأتأمل مفردات بيتي السوري، الذي ظل هناك، صعب المنال، طويل المطال.
ما إن أسافر إلى بلد عربي، حتى تتدفق حلب من ذاكرتي على طاولات الطعام. الخبز! إنه الخبز أخيراً، هذا الرغيف الرقيق الذي نغمّس به أطباق الفول والحمّص والفلافل واللبنة.
حين دعوت أصحابي الفرنسيين على العشاء، كنت أحتفظ بـ(ربطات) الخبز الثلاث، ككنز مدكّن في ثلاجتي. الفتوش، الطبق الذي لا يمكنني الاستغناء عنه، وأنا أقدّم عيّنات من طعامنا السوري لأصدقائنا الأوروبيين. الفتوش دون خبز مقلي (أو محمّص) لن يكون ممكناً.
الخبز ملك الموائد السورية. نحن الذين لا نشبع إن لم نأكل الخبز. يكاد يكون خبزنا هو نصف وجباتنا.
نشر أحد الأصدقاء صورة لطبق (كشك) يظهر جواره رغيف خبز. جاءت كل تعليقات الأصدقاء متفقة: ولكن من أين جئت بالخبز؟
يفلح بعض السوريين في المنافي، في تحضير الخبز في البيوت، ولكن الله لم يمنح الجميع موهبة تحضير الخبز. فجعلهم يستغلّون سفرهم صوب مدن أخرى، للتزوّد بالخبز.
أما خبز أمي، فهو محال في هذه البلاد، حيث لا تمتلك ثقافة الفرن. كانت أمي تستيقظ باكراً، بينما نكون نياماً، لتقف في طابور الخبز، وتأتينا بخبز يتصاعد منه البخار، خبز خرج للتو من نار الفرن، صوب أمي، التي تلتقط الأرغفة، تبرّدها قليلاً، حتى لا تحرق يديها، وتعود بها إلى البيت.
غالباً يطول انتظار أمي أمام الفرن، فيحين موعد ذهابي إلى المدرسة، وإلى الجامعة لاحقاً، أغادر البيت فأصادفها في الطريق، تلتمع عيناها ببريق النصر، إذ حصلت على الخبز بعد الانتظار الطويل، تصرّ أن تناولني رغيفاً ساخناً. ألتهمه في الطريق صوب موقف الباص، ممتلئة بدوري بنشوة النصر: خبز طازج في الصباح، تسجيل أول نقاط الانتصار لهذا النهار.
أما قهوة أمي، أي قهوة محمود درويش في الأصل، الذي كنت أردد كلمات قصائده دون أن يمسني المعنى، فهي حكاية أخرى، تزيد برد المنفى.
القهوة التي نقتطع وقتاً صباحياً ونحن نراقب (الركوة) على النار حتى لا تفور. نحركها طويلاً برفق، إلى أن تغلي ونسكبها.
كان الوقت طويلاً في البلاد، بينما أوقات المنافي قصيرة. نضع الماء والقهوة في ماكينة القهوة، نضغط على الزر، ونذهب لتحضير أشياء أخرى، وحين نسمع رنة انتهاء انسكاب القهوة، نأخذ فنجاننا ونشرب قهوتنا على عجل.
طقس تحضير قهوة الأمهات يحتاج إلى وقت، وإلى (ركوة) غالباً نحسب حسابها في حقائب منافينا، وإلى بن. هذا البن الذي لا نجده إلاً نادراً في بلاد الأوروبيين.
أحضرت لي صديقة فرنسية كيساً من البن، وقد التمعت عيناها بذات لمعان عيني أمي العائدة ظافرة من الفرن. قالت لي جيانا: قهوتك! حين فتحت الكيس ورأيت ذرات البن الخشنة، أصيبت صديقتي بالإحباط، وانطفأ اللمعان: ليست هذه؟ هززت رأسي نافية.
كالخبز، كلما ذهبت إلى بلد عربي، أطلب القهوة المغلية، والتي تزعجني تسميتها بالقهوة التركية، وأذعن للتسمية لتسهيل التفاهم: قهوة تركية مغلية. هذه عطايا نحصل عليها، نحن المنفيين، حين نذهب إلى بلاد مشابهة لبلادنا، نعثر فيها على خبز أمهاتنا، وقهواتهن.
لا توجد في هذه البلاد الباردة فكرة الفرن الذي يخبز أمامك، فترى الرغيف يدخل كشريحة عجين ممددة على لوح خشبي، لينتفخ أمام عينيك، ويتقمّر، ويخرج رغيفاً جاهزاً للأكل. لا توجد في هذه البلاد محلات الفول والفلافل، حيث المطعم لا يقدم سوى الفول وأصحابه: الفلافل والحمص وأغراض التسقية أحياناً. الفوّال، كلمة غامضة في فرنسا. كيف أشرح لهم، أن الفوال صبري في حارتي في حلب، هو جزء من طقس يوم الجمعة، وأن أبو عبدو الفوال في حارة الجديدة هو أشهر من محافظ حلب ومن مغنيها وأطبائها. من لا يعرف أبو عبدو الفوال ليس حلبياً.
هكذا تلوح البلاد من بعيد، غارقة في رائحة الخبز الطازج والقهوة والفول. المنفى اليوم كبير وهائل الاتساع. صار الكثير من السوريين يحيون داخل المنافي، وصارت تلك البلاد بعيدة بعيدة، وخبز الأمهات وقهوتهن، صارت من المستحيلات.
ضفة ثالثة