مراجعات كتب

الخراف «الممتازة» تحكم العالم/ محمد عارف

 

 

“الخراف الممتازة”عنوان كتاب يتناول حسب عنوانه الثانوي “سوء تعليم النخبة الأميركية”. يعرض الكتابُ الصادر بالانجليزية “الناسَ السوبر”؛ طلبة نخبة الكليات الذين يحققون أعلى الدرجات في الدراسة، ويمارسون الرياضة، والعزف على آلة موسيقية، ويتقنون لغات أجنبية، وخدموا في مواقع نائية من العالم، ويمارسون هوايات مختارة، “أتقنوها كلها مع ثقة في النفس تبهر المربين”. ويذكر مؤلف الكتاب “وليام ديريشفيش” وهو أستاذ سابق في “ييل”، إحدى أبرز جامعات النخبة الأميركية أن “هؤلاء الشباب المغتبطين بفوزهم في سباق الطفولة الذي صنعناه يختلفون عن ذلك في الواقع”، وقد شاهد بنفسه في العديد من طلابه، ومئات مِمّن تحدث معهم، أو كتبوا له رسائل، أن نظام تعليم النخبة الأميركية “يصنع شباباً أذكياء وموهوبين وطموحين، أجل، إلاّ أنهم أيضاً قلقين، وجبناء، وضائعين، ويملكون الإحساس البهلواني بالهدف، لكن القليل من الفضول الثقافي: سجناء فقاعة الامتيازات، يمضون خانعين نحو الهدف نفسه، عظيمين فيما يفعلون، لكن ليس عندهم فكرة عما يفعلون”.

ونخبة التعليم في رأي المؤلف هي “المعاهد الرفيعة، مثل هارفرد، أو ستانفورد، أو وليامز”، و”كذلك صناعة المعلمين المتنامية، والاستشاريين التعليميين، والممتحنين، ونظام القبول نفسه الجاثم كالتنين في مدخل سن الرشد، وفرص العمل بعد التخرج، والآباء، والمجتمعات، والطبقات المتوسطة العليا، التي تقحم أطفالها في جوف الماكنة؛ باختصار نظام تعليم النخبة بالكامل”.

ويذكر “ديريشفيش” الذي قضى ربع قرن في جامعات النخبة أنه دَرَّسَ كثيراً من طلبة لامعين أذكياء، “لكن قليلاً جداً منهم كان متحمساً للأفكار، وقليلاً جداً من اعتبر الكلية جزءاً من استكشاف ثقافي، وتطور، وكلهم يرتدون بدلات، كما لو كانوا على أهبة الاستعداد لإجراء مقابلة في أي لحظة”. و”انظُرْ تحت واجهة التلاؤم الجيد، وستجد غالباً مستويات سُمِّية من الخوف، والقلق، والكآبة، والخواء، وفقدان الهدف، والعزلة”. ويقدم الأكاديمي الأميركي تقويماً مفارقاً لمعايير القبول في هذه الجامعات التي “بلغت من الصرامة حدّ أن الفتيان الذين يدخلونها لم يعرفوا غير النجاح، واحتمال أن لا ينجحوا يُروِّعهم، ويُشتِّتهم”.

وينتقد المؤلف مفهوم “العائد الاستثماري” الذي يربط التعليم بتحصيل مزيداً من النقود، ويسأل “هل الهدف الوحيد للتعليم هو أن يُمَكِّنك من الحصول على وظيفة؟”. ويذكر أن أول ما وُجدت الكلية من أجله ليس مجرد المهارات الذهنية الخاصة بأنظمة محددة، “بل هي فرصة للوقوف خارج العالم بضع سنوات، ما بين تشددية عائلتك، ومتطلبات مهنتك، وتأمل الأشياء من مسافة”. وتعلُم التفكير في تقديره هو “البداية فحسب. فهناك شئ يجدر بالأخص التفكير فيه، وهو أن تبني نفسك، والنفس ليس شيئاً مُعطى، لكن فقط عبر العمل على إقامة التواصل بين العقل والقلب، وبين التجربة والعقل، تصبح ذاتاً، وكائناً فريداً، تصبح روحاً”. ويرى في هذا سبب ما يلاحظ من نجاح الكليات الدينية، وبعضها مغمور، في اجتذاب الطلاب.

 

وليس كمواقع السلطة الأميركية العليا أماكن زاخرة بالخراف “الممتازة” الفاقدة الصلة بين العقل والقلب. فماذا غير “ثُغاء خراف” يمكن أن تكون زلاّت لسان بايدن، الذي بلغ به الأمر حد استخدام كلمات وسخة لوصف عمله كنائب للرئيس، وأعقبها باتهام تركيا وبلدان المنطقة بتمويل الجماعات الإسلامية الإرهابية، ثم اعتذر سريعاً بـ”ثُغاء” مغاير. ومصيبة واشنطن كما حددها قبل أكثر من نصف قرن أنشتاين “لا يمكننا أن نحل مشاكلنا بالتفكير نفسه الذي استخدمناه عندما أوجدنا المشاكل”. وسواء كان تنظيم “الدولة الإسلامية” صنعته واشنطن، أم صنعه الانتقام لملايين القتلى والجرحى والمشردين العرب والمسلمين فإن ردود أفعال واشنطن وحلفائها الغربيين ” ثُغاء” بالصواريخ أو بالقنابل أو الكلام.

و”الثُغاءُ” طريق الخراف “الممتازة” للالتفاف حول قرار واشنطن عدم إرسال قوات الى العراق وسوريا. هذه هي مهمة قوات خاصة أشاد بادائها الرئيس أوباما، تخوض حاليا معارك ميدانية، شارك في بعضها سفراء أميركيون، بينهم السفير السابق الى سوريا روبرت فورد، الذي أعلن أن التواصل الاجتماعي أمر لا غنى عنه، وذكر أن المسؤولين في دمشق “كانوا يستطيعون بسهولة منعي من الوصول إلى الإعلام السوري، لكن إذا وضعتُ شيئاً على الفيس بوك ستلتقطه فوراً الفضائيات العربية، مثل “الجزيرة” وسيبلغ منازل السوريين بسهولة جداً”. هذه المعارك التي تجري وجها لوجه، أو بصورة أدق “كومبيوتر لكومبيوتر” يديرها “مركز الاتصالات المضادة للإرهاب في وزارة الخارجية”. يرأس المركز “ريتشارد ستينجل” وكيل الخارجية الأميركية لما تُسمى “الدبلوماسية العمومية” التي “توجه الضربات خصوصاً في الفضاء المعلوماتي”.

“الحرب الرقمية تتشكل على الشبكة ضد داعش” عنوان تقرير هزلي عن الموضوع في “نيويورك تايمس”، والهزل ليس في التقرير البالغ الجدية بل في استقرائه. فالتقرير يُستهل بالتعبير عن الدهشة من النجاح العسكري المفاجئ لجماعة “الدولة الإسلامية” ويتحدث عن “استعراضها مهارات وبراعة في التواصل الاجتماعي لم يُشاهدُ من قبل في الجماعات المتطرفة”. وعندما يطلق “البنتاغون” المدافع تلجأ الخارجية الأميركية إلى بنادق “فيسبوك” و”يوتيوب” و”تويتر” و”هاشتاج”، و”لا خيار عندنا سوى مواجهة بروباغندا داعيش بضربات مقابلة قوية في الأونلاين”. وفي حروب تبادل “الزبالة الإعلامية” التي تزخر بها الأونلاين خسارة واشنطن مضمونة، ليس فقط لأن صورتها في العالم العربي والإسلامي بلغت الحضيض، بل لأن عدد موظفي “مركز الاتصالات المناهض للإرهاب 50 فقط، وهو أقل من عدد رواد “مقهى الإنترنت” في مدينة الرقة السورية، والذين يبثون 24 ساعة في اليوم ما تمليه “داعش” التي تسيطر على المدينة، حسب “نيويورك تايمز”. مقابل ذلك كشف استطلاع رأي طلاب في بلدان عربية عدة عن مدى تأثرهم براديو “سوا” وفضائية “الحرة” أن رأيهم بالسياسة الأميركية يزداد سوءاً بمقدار ما يتابعون هاتين المحطتين التابعتين للخارجية الأميركية.

وأينما تهرول الخراف “الممتازة”، تتبعها نعاج عربية ترَّبت على مثالها، وأكملت جامعاتها، وتدربت مثلها داخل “فقاعات الامتياز”. في بلدي العراق، حيث حملت دبابات الاحتلال النعاج “الممتازة” إلى سدّة الحكم تعالت أغبى وأقبح “ثُغاء” سمعته المنطقة في التاريخ؛ “ثُغاء” الطائفية. اقتصاديون، وأطباء، ومهندسون “لامعون”، كأحمد الجلبي، الحاصل على دكتوراه الرياضيات من “معهد ماساشوستس للتكنولوجيا”، بدلاً من أن يبادروا لرأب صدع الزلزال الطائفي زايدوا على الأحزاب الطائفية بالإعلان عن “البيان الشيعي” و”البيت الشيعي”. و”الكشوان” المسؤولُ عن أحذية الزوار في أضرحة آل البيت في النجف وكربلاء يفهم بالسياسة العراقية أكثر مما يفهم هؤلاء خريجو جامعات النخبة الأميركية. كتبتُ ذلك هنا في أول الاحتلال، وها هو العالم يرى ثروات حرام طائلة نهبتها الخراف “الممتازة” تغذي آلات قتل أعتى الحركات الطائفية المتناسخة.

*مستشار في العلوم والتكنولوجيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى